[الإيمان بحشر الخلائق]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويحاسبهم الله تبارك وتعالى، وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين، وتتطاير صحائف الأعمال إلى الأيمان والشمائل {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:٧-١٢] .
والميزان له كفتان ولسان توزن به الأعمال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠٢-١٠٣]] .
هذا صلة لما تقدم من الكلام على الإيمان باليوم الآخر، والمؤلف رحمه الله ذكر شيئاً مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر ولم يستوعبه، وقد تقدم أن الإيمان باليوم الآخر يقتضي الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، كما قال رحمه الله: (والبعث بعد الموت حق) ، ثم قال: (وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور) (فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:٥١] ) .
وقد جاء النفخ في القرآن في ثلاثة مواضع: الموضع الأول قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:٨٧] ، هذه النفخة الأولى وتسمى نفخة الفزع.
والنفخة الثانية والثالثة في سورة الزمر في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] ، فحصل من هذا ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام والبعث.
والمؤلف رحمه الله ذكر في هذه الآية نفخة البعث التي يقوم بها الناس لرب العالمين، كما قال الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:١-٣] ، {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٤-٦] ، فهذا القيام عقب النفخ هو الذي يقوم به الناس من قبورهم، ويحشرون به إلى ربهم، قال رحمه الله في قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:٥١] أي: يأتون من كل مكان، ويجتمعون من كل صوب، والنسل في قوله تعالى: (ينسلون) يدل على كثرة وعظم هذا البعث، وأنه بعث عظيم يأتي بالناس ويجمعهم من كل مكان.
قال رحمه الله: (ويحشر الناس يوم القيامة) .
بعد أن ذكر البعث وقيام الناس لرب العالمين ذكر الحشر، ويحشرون: أي يجمعون، وهذا الجمع ليس خاصاً بالناس، وإنما خصهم المؤلف رحمه الله بالذكر لكونهم هم الذين يقصدون بالبعث والنشور والحشر؛ لأن مقصود الحساب والجزاء أن يتبين أهل السعادة وأهل الشقاء، وأما بعث ونشر وحشر غيرهم فهو تابع، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:٥] ، فالوحوش تحشر وتجمع، وقال تعالى في حشر الخلائق:: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:٣٨] ، أي: كل ما طار وما درج وكل ما خلقه الله عز وجل يحشر يوم القيامة، فكل ذي حياة يبعث يوم القيامة ويؤتى به إلى أرض المحشر.
قوله رحمه الله: (ويحشر الناس) تخصيص لقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] ، فيحشرون ويجمعون على الصفة التي ذكرها الله عز وجل.
وسمى اليوم بيوم القيامة؛ لأنه {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] ، ولأنه اليوم الذي يقام فيه الميزان بالقسط، ولأن الله عز وجل يقيم فيه العدل؛ فهذا هو سبب تسمية هذا اليوم بيوم القيامة.
قال رحمه الله في صفة حشر الناس: (حفاة عراة غرلاً بهماً) ، وهذه الأوصاف جاءت بها السنة، ففي حديث ابن عباس في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنكم ملاقو ربكم حفاة عراة غرلاً) ، وأما زيادة: (بهماً) فجاءت في مسند الإمام أحمد بسند لا بأس به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، قالوا: ما بهماً يا رسول الله؟ قال: ليس معهم شيء) ، أي كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:١٠٤] ، {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:٩٤] ؛ فكل الناس يأتي يوم القيامة ليس معه شيء من هذه الدنيا إلا ما كان من العمل الصالح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (يأتي الرجل يوم القيامة فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -جهة شماله - فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار) ، وإنما ذكر العمل عن اليمين وعن اليسار؛ لأن به يحصل فكاكه مما بين يديه.
يقول المؤلف رحمه الله في بيان ذلك الموقف: (حفاة) : أي ليس معهم شيء يقي أقدامهم، (عراة) : ليس معهم ما يستر أجسادهم، (غرلاً) : قد تم خلقهم فلا نقص فيهم بوجه من الوجوه، حتى هذه القطعة التي تؤخذ من الذكور عند ختنهم بعد ولادتهم تعاد: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] ، فلا يضيع شيء من خلق الناس: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤] ، أي: يحفظ كل قطعة وكل جزء وكل ذرة من خلق الإنسان، ويعلم أين ذهبت؛ فيجمعها الله عز وجل ويتركب منها هذا الخلق يوم القيامة.
قال: (فيقفون في موقف القيامة) ، أي: في أرض المحشر يقفون قياماً على أقدامهم في ذلك اليوم الشديد العصيب.