يقول رحمه الله:(والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزورونه) : هذا فيه إثبات زيارة المؤمنين لله عز وجل، وحديث الزيارة رواه الدارقطني وغيره عن ابن مسعود وأنس وأبي هريرة وابن عباس وعن غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء ذلك أيضاً عن جماعة من التابعين.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في حديث الرؤية: وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد، لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر.
يعني: أن الزيارة ثابتة، وإن كان أفراد هذه الأحاديث ضعيفة.
قال رحمه الله: بل قد يقتضي القطع بثبوت الزيارة، فقد روي عن الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، وذكرنا أن المروي عن الصحابة في الزيارة من طريق ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وحديث أنس أمتن الأحاديث في ذلك لم تذكر فيه الزيارة، فقد روى الإمام مسلم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً يأتيه أهل الجنة كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو على ثيابهم ووجوههم فيزدادون طيباً وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا طيباً وجمالاً أو حسناً وجمالاً، فيقولون لأهليهم: لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول أهلهم لهم: وأنتم أيضاً ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً) ، فهذا الحديث في صحيح مسلم ليس فيه زيارة لله عز وجل، لكنه جاء عند الدارقطني بأسانيد متعددة عن جملة من الصحابة أن هذه الزيادة ليس سببها الريح فقط، بل سببها الريح ورؤية المؤمنين الله عز وجل، كما قال الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٢-٢٣](ناضرة) أي: اكتسبت نضرة وجمالاً، ثم ذكر السبب في هذه النضارة وهي النظر إلى الله عز وجل فقال:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٣] .
إذاً: أحاديث الزيارة ثابتة، فزيارة المؤمنين لله عز وجل ثابتة، ولذلك قال المؤلف رحمه الله:(ويزورونه) .
قوله:(ويكلمهم) فيه إثبات الكلام أيضاً، وهو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما:(ما منكم أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، وهذا يعم المسلم والكافر، لكن الفرق في نوع التكليم، فإن تكليم الله لأهل الإيمان تكليم رحمة وبر وتنعيم، وأما تكليمه لأهل النفاق فهو تكليم تقريع وتعذيب وذم، وتكليم الله للكفار ليس مقتصراً على أرض المحشر، بل يكلمهم في المحشر ويكلمهم إذا صاروا إلى النار نسأل الله السلامة والعافية منها؛ فإنهم إذا سألوا التخفيف من العذاب يقول الله عز وجل لهم فيها:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:١٠٨] ، فهذا كلام رب العالمين لأهل النار، فنفي التكليم إنما هو في حال من الأحوال في أرض المحشر، أو يكون المنفي من التكليم هو تكليم البر والإحسان والرحمة والإنعام.
قال رحمه الله:(ويكلمونه) فيكلمهم الله عز وجل ويكلمونه.
قال الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٢-٢٣] ، وهذه من أقوى الأدلة التي يثبت بها أهل السنة والجماعة نظر المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة، فإن الله أخبر عن وجوه أهل الإيمان بالنضارة، فقال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:٢٢] أي: حسنة جميلة منعمة مكرمة، فيها من البهاء والنور والجمال ما ليس في غيرها، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة:٢٣] أي: إلى الله جل وعلا ناظرة، فأضاف نظر أهل الإيمان إلى الرب، ثم النظر بأي شيء كان؟ بالقلوب أم بالوجوه؟ بالوجوه، ولذلك قال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}[القيامة:٢٢] ، فنص على الوجوه التي فيها آلة النظر، وهذا دليل ما ذكره المؤلف رحمه الله من أنهم يرونه بأبصارهم؛ لأنه أخبر عن الوجوه بأنها ناضرة إلى ربها، فالوجوه هي التي تنظر إلى ربها وتنظر إليه بأبصارها، بالآلة التي يحصل بها النظر في الوجه وهي البصر، فلا يمكن أن يقول قائل: إنها رؤية كشف؛ لأن الكشف لا يكون للأبصار، بل يكون للقلوب، ولا يمكن إن يقال: إنه نظر إلى النعيم؛ لأن الله أضاف النظر إليه جل وعلا فقال:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا}[القيامة:٢٢-٢٣] فلا يسوغ أن يقال: إلى نعيم ربها، لأنه أضاف النظر إليه جل وعلا، فمن حرف الكلم عن مواضعه وقال: إنه النظر إلى النعيم يكون قد خرج عما دلت عليه الآية من إضافة النظر إليه جل وعلا، فهذه الآية من أقوى وأظهر وأصرح الأدلة في إثبات نظر المؤمنين لربهم جل وعلا، نسأل الله أن نكون منهم.