أما صفة العلو التي ذكر المؤلف أدلتها فهي ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع سلف الأمة، والعقل دال عليها، والفطرة المركوزة في نفوس الناس وفي خلق الله تدل عليها، ولذلك يقول شيخ الإسلام: صفة العلو أجمع عليها الناس جميعاً، مسلمهم وكافرهم، وفرعون لما دعاه موسى إلى الله جل وعلا قال لهامان:{ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}[غافر:٣٦-٣٧] ، فلم يطلب الله عز وجل في يمين، ولا في شمال، ولا في خلف ولا في أمام، وإنما طلبه في العلو، وهذا دليل على أن الإقرار بالعلو أمر مركوز في الفطر، حتى في فطر البهائم، ولذلك لما كان الجويني من أئمة الأشاعرة يقرر عدم علو الله عز وجل، قاطعة الهمذاني وهو يتكلم على المنبر فقال: دع عنا العرش وذكره وأخبرنا عن شيء في قلوبنا، فما قال داع قط: يا ألله! إلا وجد من قلبه طلب العلو، فجعل الجويني يضرب على رأسه ويقول: حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني؛ لأنه مهما حاول المحاولون أن يبطلوا هذا فإن فطرهم تأباه؛ ولذلك فهم عند الضرورة لا يتوجهون لا إلى يمين ولا إلى يسار، بل يذوب هذا التنظير وهذه المناقشة، ويرجعون إلى ما دل عليه الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة من الإقرار بعلو الله جل وعلا، فتجد الذي ينكر علو الرب يشير بإصبعه إلى العلو عند الإشارة إلى الله جل وعلا، وهذا أمر فطر الله القلوب عليه، فلا سبيل إلى إنكاره.
والمؤلف ذكر من الأدلة على علو الله عز وجل عدة أدلة، فمن الكتاب قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] واقتصر عليه لأنه علو خاص، وإلا فمن الأدلة قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران:٥٥] وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}[فاطر:١٠] وغير ذلك، والأدلة على علو الله عز وجل كثيرة.
أما الأحاديث فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم:(ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) وهذا الحديث رواه أبو داود بسند حسن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو حديث مشهور بأنه حديث رقية المريض؛ لأنه يقرأ على المريض.
والشاهد فيه قوله:(ربنا الذي في السماء) و (ربَّنا) بالنصب، لأنه منادى، والتقدير:(يا ربنا) فحذفت ياء النداء.
وقال للجارية:(أين الله؟ قالت: في السماء) أي: في العلو؛ لأن السماء اسم جنس لما علا، ويمكن أن يقال:(في السماء) أي: السقف المحفوظ، وتكون (في) هنا بمعنى (على) ، كما قال تعالى حاكياً عن فرعون:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه:٧١] والتصليب لا يكون في بطن الجذوع وإنما يكون عليها، فكانت (في) هنا بمعنى (على) ، وكقوله تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}[الملك:١٥] ، والناس لا يمشون في داخلها ولكن عليها، فـ (في) تأتي بمعنى على.
فقول الله تعالى:{أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[الملك:١٦] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء) معناه: الذي في العلو، وإما أن يكون المراد بالسماء السقف المحفوظ فتكون (في) بمعنى: (على) ، فيكون المعنى: الذي على السماء، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.