يقول رحمه الله:(وتنشر الدواوين) ؛ النشر ضد الطي، وهو: البسط والكشف والإشاعة، والدواوين: جمع ديوان، وأصل الديوان: الجريدة التي يتكون منها الكتاب، فالديوان قرطاس من قراطيس الكتاب، فالدواوين هي القراطيس التي يكون فيها عمل بني آدم، وتنشر هذه الدواوين على الخلق، وقد ذكر الله عز وجل في قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:٧-١٢] .
يقول رحمه الله:(وتتطاير الصحائف) الصحائف: جمع صحيفة، وهي الدواوين، وهي صحف الأعمال.
(إلى الأيمان والشمائل) ، أي: أن من الناس من يأخذ كتابه بيمينه -نسأل الله أن نكون منهم- ومنهم من يأخذ كتابه بشماله، واستدل لذلك بقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ، وهؤلاء هم أهل السعادة أهل التوحيد والإيمان، أهل الإسلام يؤتون كتبهم بأيمانهم، {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، الحساب اليسير هو عرض العمل عليه؛ فيعرضه الله عليه ويقرره به ويقول له: قد غفرت لك، وتطوى تلك الصحائف ويئول إلى الجنة، {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} بفوزه ونجاته.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} وهذا يأخذ كتابه بيده اليسرى، وإنما قال:(وراء ظهره) بناء على سوء الحال، وأن الإنسان يخفي هذه الصحيفة ولا يفرح بها، ويتمنى أن لم تصل إليه لما فيها من سوء الشهادة عليه، وبيان مآله ومصيره، وأنه من أهل النار، ولذلك يخفيها، ولذا قال الله تعالى في صفة أخذها:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا}[الانشقاق:١٠-١١] ، أي يقول: يا ثبوراه! يا ثبوراه! وذلك لما بان له واتضح من عظيم الخسارة، وكثير الفوات الذي حصله في ذلك الموقف.
{وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:١٢] ، أي: ويحرق بالنار -نعوذ بالله- ويُصلَى كما تصلي ما تطبخه على النار، كذلك هذا الذي أخذه كتابه وراء ظهره يصلى سعيراً، وقد ذكر الله عز وجل الأخذ بالأيمان والشمائل في قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي}[الحاقة:١٩-٢٥] هذا السر يبينه لنا الله فيه كيف يأخذ كتابه من وراء ظهره (فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:٢٥-٢٧] ، يا ليت الموتة السابقة كانت القاضية {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:٢٨-٢٩] .
هذا الخبر في سورة الحاقة ذكر الله فيه انقسام الناس في أخذ الكتاب؛ فذكر الأخذ بالشمائل، وهنا ذكر موضع الأخذ، وأنه يؤخذ من وراء الظهر.
ومن العلماء من قال: إن الناس في أخذ الكتاب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، والذي يظهر والعلم عند الله: أن الناس ينقسمون في ذلك إلى قسمين: - قسم يأخذ كتابه بيمينه.
- وقسم يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.
ولا تعارض بين ما في آية الحاقة، وبين ما في آية الانشقاق؛ فإن آية الانشقاق أخبرت بأنه يأخذه من وراء ظهره، وآية الحاقة أخبرت بأنه يأخذه بشماله.