[النقض على الجبرية في احتجاجهم بمحاجة آدم وموسى]
ومما ينبه إليه في مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية هو أن الجبرية الذين غلوا في إثبات القدر، وجعلوا القدر، حجة على إبطال الشريعة، يستدلون بما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في محاجة موسى آدم، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج آدم موسى، فإن موسى قال سائلاً الرب جل وعلا: أرنا أبانا الذي أخرجنا من الجنة، فلما رآه قال: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لمَ خرجت وأخرجتنا من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام لموسى: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله بتكليمه فكلمك، وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت ذلك مكتوباً علي قال: بأربعين سنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى) ، هذا الحديث يحتج به الذين يقولون: إنه يسوغ أن يحتج بالقدر على المعصية؛ قالوا: إن آدم رد على موسى بأن الله كتب عليه المعصية، حيث قال له: فبكم وجدت مكتوباً علي قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى؟.
والصحيح أنه لا حجة لهم في هذا الحديث على ما ذهبوا إليه من الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع؛ لأن الموضوع والمحاجة بين آدم وموسى: هل هي في المعصية أم في المصيبة وهي الإخراج من الجنة؟ وهل قال: يا آدم! لمَ عصيت الله وأكلت من الشجرة، أو قال له: لمَ أخرجتنا؟
الجواب
أن المحاجة والمناقشة وقعت في المصيبة التي ترتبت على وقوع المعصية وهي الإخراج من الجنة، فأجاب آدم بأن المصيبة من قدر الله عز وجل، وهذا لا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة من أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بالإنسان مصيبة احتج بالقدر، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم المروي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استعن بالله ولا تعجز، فإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، أو قدّر الله وما شاء فعل) ، فكان الاحتجاج بالقدر على المصيبة.
ولذلك إذا أصابك شيء مما تكره؛ ففاتك خير أو نزل بك ضر، فإنك تقول: قدر الله وما شاء فعل، فدل هذا على أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، وهذا إجماع من أهل السنة والجماعة ولا خلاف بينهم فيه، لكن هل يسوغ لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ الجواب: لا.
فآدم عليه السلام احتج بالقدر على الإخراج -وهي المصيبة التي نزلت به وببنيه- لا على المخالفة، وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ورجحه، وأبطل سائر ما ذكر من الأوجه في إبطال المحاجة؛ لأن من العلماء من قال: إن آدم حج موسى لكونه أباه أو غير ذلك من الأوجه.
المهم أن هذا هو أرجح الأقوال، وابن القيم رحمه الله سلك مسلكاً آخر فقال بعد أن ذكر كلام شيخه: ويكون هناك وجه آخر يصلح أن يكون جواباً في هذه المحاجة وهو: أن آدم عليه السلام إنما احتج بالقدر على المعصية بعد أن وقعت وتاب منها.
فيقول رحمه الله: فيجوز للإنسان إذا وقعت منه معصية وتاب الله عليه منها أن يحتج بالقدر إذا عاتبه أحد.
فمثلاً: إنسان أسرف على نفسه بشرب الخمر وسائر ألوان المعاصي ثم تاب، فجاءه شخص وقال: أنت ما فيك خير، وأنت شارب خمر، وأنت سراق، وما أشبه ذلك، فله أن يقول: ذلك بقدر الله؛ لأنه في الحقيقة بقدر الله، فساغ الاحتجاج بالقدر على المعصية بعد التوبة منها، وهذا هو الذي وقع من آدم، فإنه ما احتج بالقدر - على ما وجه ابن القيم رحمه الله- على الاستمرار والمضي في المعصية، وإنما احتج بالقدر على أنها قد وقعت وانتهت فلا تعيرني بها، ومن تاب تاب الله عليه، والتوبة تجب ما قبلها، فبطل احتجاجهم بهذا الحديث على مسألة الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة.
وإنما أطلنا في هذا وبينا أوجه إبطال وإفساد احتجاجهم بالقدر على إبطال الشريعة الإسلامية؛ لأن كثيراً ممن ابتلوا بالتصوف يحتجون بالقدر على أخطائهم، وكثير ممن يسرفون على أنفسهم في المعاصي إذا أمروا بالمعروف أو نهوا عن المنكر قالوا: ما قدر الله لنا الطاعة، وما هدانا الله لترك المعصية، وما أشبه ذلك من الحجج الباردة التي يبطلون بها الشريعة.