للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجوب إثبات اللفظ والإيمان بأن له معنى]

تقدم الكلام على جزءٍ من هذا المقطع، وقلنا: إن نصوص الكتاب تنقسم إلى قسمين من حيث الدلالة: ما هو واضح الدلالة، وما هو خفي الدلالة، فواضح الدلالة الذي لا يحتمل إلا معنىً واحداً هو المحكم، وأما ما خفيت دلالته أو احتمل أكثر من معنى فإنه المتشابه، والواجب في المحكم الإيمان به والعمل، والواجب في المتشابه الإيمان به ورد معناه إلى ما دل عليه المحكم، وهذا هو سبيل الراسخين في العلم.

يقول رحمه الله: (وما أشكل من ذلك) أي: ما وقع فيه إشكال، كأن اشتبه في دلالته ومعناه، ومن ذلك آيات الصفات، فإن البحث هنا فيها بالذات والخصوص، أما من حيث الأصل فإنه يشمل البحث في آيات الصفات وفي غيرها.

يقول رحمه الله: (وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً) وهذا لا إشكال فيه، فإنه لا يمكن أن يلغي أحد شيئاً من كتاب الله عز وجل، ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وصحت، لكن البحث في المعنى فيقول: (وجب إثباته لفظاً وترك التعرض لمعناه) أي: وجب إثبات اللفظ، وأما المعنى: فيجب ترك التعرض له، بمعنى: أن نعرض عن قول شيءٍ لم يتبين لنا فيه حجة أو برهان، فلا نقول في آيات الله، ولا فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أنفسنا أو آرائنا، بل ما أشكل علينا إذا أمكن أن نرده إلى المحكم فذاك المطلوب، وهذا الذي ينبغي أن يكون.

وإذا لم نتمكن من ترجيح شيء في معنى هذا المشكل فالواجب ألا نقول فيه شيئاً ليس لنا فيه حجة، وليس لنا فيه برهان، بل نقف ونقول: الله أعلم بمراده.

فمعنى قول المؤلف رحمه الله: (وترك التعرض لمعناه) أي: يجب علينا أن نقف في المعنى، وليس مقصود المؤلف ومعنى كلامه أننا نقول: إنه ليس له معنى، إذ ليس في كلام الله عز وجل ما لا معنى له، بل كل كلام الله عز وجل له معنى؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بلسان عربي مبين، يدرك معناه، ويعرف مبتغاه، لكن إذا اشتبه علينا شيء من المعنى وجب علينا الوقوف في تحديد المعنى.

إذاً: ما أشكل من الآيات، وما أشكل من الأحاديث فلم نفهم المعنى، فيجب علينا إثبات اللفظ الذي جاء به النص، وأما معنى هذا النص فالواجب علينا أن نتوقف فيه حتى يأتينا برهان أو حجة، ونستطيع من خلالها أن نقول: إن معنى الآية كذا وكذا، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: (وجب إثبات لفظه، وترك التعرض لمعناه) .

وبعض الناس يظن أن المؤلف رحمه الله أراد بقوله: (وترك التعرض لمعناه) أي: أنه ليس له معنى، وهذا يأباه سياق الكلام، فإن المؤلف رحمه الله يتكلم عن الآيات المشكلة، وإنما جاء الإشكال لكون المعنى فيها غير واضح، فهو لم يقل: ليس لها معنى، أو أنها كلام لا يقصد منه شيء، إنما أراد المؤلف أن الواجب في المشتبه من المعاني إذا لم يتبين معناه التوقف.

إذاً: إذا أشكل عليك شيء من كلام الله ومن كلام رسوله، فما هو الطريق الذي تسلكه؟ الطريق الذي تسلكه: أن تطلب حل هذا الإشكال من كلام الله ومن كلام رسوله، فإن وفقت إلى ذلك فالحمد لله، وهذا المطلوب والمبتغى، وإذا حيل بينك وبين هذا ولم تتوصل إلى المعنى فعند ذلك تثبت أن الكلام له معنى؛ لأن الله خاطبنا بما له معنى، ثم تقول: الله أعلم بمراده.

كما سيأتي في كلام الشافعي رحمه الله الذي نقله المؤلف: (ليس في كلام الله ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا معنى له) ، ومن قال: إن آيات الصفات لا معنى لها، أو أن كلها معناها لا نعلمه؛ فقد بخس القرآن حقه، وجنى على النصوص) ، وهو ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في قوله: فالجحد والإعراض والتأويل والتـ ـجهيل حظ النفس عند الجاني التجهيل: أي: أنه ليس له معنى، هذا معنى قوله رحمه الله.

فكل من أعرض عن الكتاب، وجحد ما جاءت به النصوص من الصفات وكل من أوَّل وحرف كلام الله عن مواضعه وكل من قال: إن النصوص ليس لها معنى، أو أن لها معنى لا نعلمه في جميع مواردها؛ فإنه قد جنى على النصوص؛ فكل هذا من أنواع الجنايات على كلام الله وكلام رسوله.

<<  <  ج: ص:  >  >>