والخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء خلاف حقيقي وليس خلافاً لفظياً كما ذكر ذلك ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية، فالخلاف حقيقي يترتب عليه خلاف معنوي، فإن جمهور العلماء وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الصلاة والزكاة -وهما رأس العمل- من الإيمان، ومرجئة الفقهاء يقولون: إنهما ليسا من الإيمان.
ويرد عليهم بقول الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:٥] ، فجعل الله ذلك من الدين، فدل ذلك على أنها داخلة في الإيمان وأنها من الإيمان، فعلم بهذا أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء هو خلاف حقيقي، وإنما قال من قال: بأنه خلاف لفظي بناءً على أن عمل القلب هل يدخل في الإيمان أو لا؟ وهل يؤثر في زيادة الإيمان أو لا؟ وقد ذكر الطحاوي رحمه الله في متنه ما يدل على أن هذا القول مضطرب، فقال رحمه الله:(الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ، فلم يذكر العمل، ثم قال:(وجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) ، ثم قال:(والتفاضل بينهم في الخشية) ، فجعل الإيمان متفاضلاً حيث قال:(والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) ، هكذا قال رحمه الله في متن الطحاوية، وهذا يدلك على أن هذا القول فيه من الاضطراب ما فيه، إذ كيف يقول: الإيمان واحد، ثم يقول: وأهله في أصله سواء؛ لأنه لو كان الإيمان واحداً لم يكن أهله في أصله سواء؛ لأن إيحاءه بأن له أصلاً وفروعاً يدل على أن العمل داخل فيه.
ثم قوله:(والتفاضل بينهم في الخشية والتقوى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يدل على أنه يثبت تفاضلاً، ومرجئة الفقهاء على أن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص بناءً على أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، والزيادة والنقصان إنما هي في الأعمال.
فهذا القول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة قد انتظم في الرد على هذه الطوائف كلها، سواء الجهمية أو المرجئة -مرجئة الفقهاء- أو الكرامية، ولم نذكر قول الكرامية لأنه قول مندثر لا قائل به، فهم يقولون: الإيمان قول اللسان فقط.
والصحيح هو: مادلت عليه النصوص من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالجوارح، فترتب على هذا الاعتقاد اعتقاد أن الإيمان يزيد وينقص، ولذلك قال:(يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) ، وهذا يخالف فيه كل الفرق التي خالفت في حقيقة الإيمان، فيخالف فيه الجهمية، ويخالف فيه مرجئة الفقهاء، ويخالف فيه الكرامية، ويخالف فيه الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة وإن كانوا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ولكنهم يخالفون في زيادة الإيمان ونقصانه، ويقولون: الإيمان شيء واحد، إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً، هذا هو قولهم فيما يتعلق بالإيمان.
قال:(قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:٥] ) وهذا فيه دليل على ما تقدم من أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، وبين ذلك المؤلف رحمه الله فيما قال:(فجعل عبادة الله وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال:{فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[التوبة:١٢٤] ) .
وبهذا فرغ المؤلف من الاستدلال لبيان حقيقة الإيمان وأنه قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، ثم انتقل إلى دليل الزيادة والنقصان، فذكر قوله تعالى:{فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}[التوبة:١٢٤] .
ثم قال:(وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً}[الفتح:٤] وقال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال برة أو خردلة أو ذرة من الإيمان) فجعله متفاضلاً) ، وهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، أما الزيادة فبالنص، وأما النقصان فبالمفهوم، كما قال سفيان بن عيينة لما سئل: أينقص الإيمان؟ قال:(إنه لا يزيد شيء إلا وينقص) .