للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كل أفعال الله عز وجل فيها حكمة ولكن قد تخفى على البعض]

قال المؤلف رحمه الله في الاستدلال لما تقدم: (قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] ) : (لا يسأل) أي: الله جل وعلا لا يُسأل عما يفعل، يعني: عما يكون منه من خلق وتقدير، (وهم يسألون) أي: الخلق يسألون، وفي هذه الآية نفي السؤال عن الله عز وجل، فلماذا: هل لكونه يفعل لغير حكمة؟

الجواب

لا، وإنما (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) هذا لكمال حكمته وعلمه جل وعلا، وأنه يضع الأشياء في مواضعها، وأنه ليس في فعله خلل ولا عبث ولا فساد حتى يسأل عنه، بل فعله في غاية الحكمة، فله فيما يقضي ويقدر الحكمة البالغة، هذه الحكمة قد يدركها الإنسان بنظره وفكره وتدبره، وقد يحال بينه وبين إدراكها، لكن امتناع الحكمة من أن تدرك ومن أن يعقلها الإنسان لا يدل على أنه ليس لهذا الفعل حكمة أو ليس لهذا القضاء أو هذا القدر حكمة، بل لابد له من حكمة، لكن هذه الحكمة قد تخفى ولا تدرك.

فقوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] هذا لكمال حكمته جل وعلا وعلمه وأن ما يفعله ليس فيه خلل ولا عبث، وأنه جل وعلا يضع الأشياء في مواضعها، خلافاً لمن استدل بهذه الآية على نفي التعليل، فقال: إن الله يفعل لا لحكمة.

وهذا لجهلهم بكلام الله عز وجل وصفاته وما يجب له، لأن المؤمن يدرك أن الله جل وعلا حكيم كما وصف نفسه بذلك، وحكمته لا تقتصر على شيء من فعله جل وعلا أو من قضائه وقدره، بل هي منتظمة جميع أفعاله، وجميع أقضيته، وجميع ما يقدره الله جل وعلا.

وهذه الآية بدأ بها المؤلف في بداية الأدلة الدالة على ما تقدم من الكلام لبيان أنه يجب على الإنسان إذا عجز عن إدراك الحكمة في قضاء الله ألا يعارض القدر، بل يجب أن يسلم للقدر، فالقدر سر الله في خلقه، لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، فإذا عجز الإنسان عن إدراك شيء مما يقضيه الله ويقدره، فالواجب عليه أن يسلم وألا يتهم الله جل وعلا بظلم أو بشيء من ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد كمال الرب وأن يتهم نفسه، وأنه جل وعلا لعلمه وحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولذلك لما جاء ابن الديلمي إلى أبي بن كعب وقال له: (إن في نفسي شيئاً من القدر) قال له مبتدئاً الجواب: (لو أن الله عذب أهل سماواتته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أوسع لهم وأفضل لهم) .

فالواجب على المؤمن فيما يتعلق بالقدر إذا وقع في قلبه شيء أن يطلب حله من كلام الله وكلام رسوله ومن سؤال أهل العلم، كما قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] فإن لم يجد جواباً فالواجب عليه أن يرد هذا الاشتباه إلى ما يعلمه من عظيم صفات ربه، وأنه الحكيم العليم الخبير الذي لا يظلم الناس شيئاً، وأن يعلم أن قدر الله من جملة ما يدخل في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، فإنه ليس كمثله شيء في شأن من شئونه، فإذا اعتقد العبد أنه ليس كمثل ربه شيء، فإنه ينحل ما قد يورثه الشيطان أو ما يوسوسه الشيطان من انتفاء الحكمة أو وجود الظلم أو ما أشبه ذلك في شيء من أقضية الله وقدره، وليكن على باله قول الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] .

<<  <  ج: ص:  >  >>