للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على من يحتج بالقدر على فعل المعاصي]

يقول المؤلف رحمه الله: (ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة في ترك أوامره واجتناب نواهيه) .

والحجة هي: كل ما يحتج به الخصم من حق أو باطل، فليس من لازم الحجة أن تكون حقاً، بل قد تكون باطلاً، فالحجة إذا كانت باطلاً فهي حجة زاهقة ذاهبة مضمحلة داحضة، وإذا كانت حقاً فهي برهان وبينة.

فقوله رحمه الله: (فلا نجعل قضاء الله وقدره حجة) أي: لا نجعلها مما يحتج به في المخاصمة، ولا نجعلها حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، كما فعل الجبرية الذين قالوا: إن المحبوب هو ما قدره الله وقضاه، فأبطلوا الشرع باحتجاجهم بالقدر.

يقول رحمه الله: (بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل) أي: علينا الحجة البالغة التي ينقطع بها العذر بإنزال الكتب، وبعثة الرسل، قال الله تعالى: {لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥] ، أي: فقد بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين حتى لا يبقى للناس على الله حجة يحتجون بها ويتذرعون بها على ما هم فيه من كفر، وعلى ما هم عليه من عدم التوحيد.

ومما ينبغي التنبه له أن بطلان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع مستقر في الفطر وأنه مما اتفقت عليه الأمم، فإن الأمم متفقة على أنه لا يسوغ إبطال الشرائع بكون الأمر قد قضاه الله وقدره، وقد ذكر أئمة هذا الدين وعلماء المسلمين أوجهاً كثيرة لإبطال الاحتجاج بالقدر، وهي حجة قد يحتج بها كثير من العصاة على تسويغ ما هم عليه من باطل، وعلى مضيهم فيما هم فيه من مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذه بعض الأوجه التي يستدل بها على بطلان الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة وفي عدم العمل بها: أول هذه الأوجه: أنه يلزم من احتج بالقدر على ترك الواجب وفعل المحرم أن يسوغ كل فساد يقع عليه من غيره، فكل من احتج بالقدر على إبطال الشريعة يقال له: قم صل، وافعل ما أمرك الله أن تفعل، أو اترك ما نهاك الله عنه، فإن قال: ما كتب الله لي، أو هذا أمر قدره الله علي؛ فإن من لازم حجته أن يقال له: كل ظلم يقع عليك في مالك أو أهلك أو نفسك فإنه يجب عليك أن تقبله وألا تنكره؛ لأن الناس يشتركون جميعاً في كونهم تحت قدر الله عز وجل، لا خروج لهم ولا قدرة لهم على أن ينفكوا عن قضاء الله وقدره، فإنه إذا كان ذلك فإنه لا يسوغ لك أن تنكر ظلم الظالم لك؛ لأن ظلم الظالم لك هو بقدر الله عز وجل، وهذا مما لا يقبله أحد مهما كان، حتى لو كان محتجاً بالقدر في إسرافه ومعصيته فإنه إذا جاء عند هذه المسألة لا يمكن أن يقبل الاحتجاج بالقدر، بل يرد الاحتجاج بالقدر ليأخذ حقه وليرفع عن نفسه الظلم في ماله أو أهله أو أي شيء من شئونه.

إذاً: هذا هو الوجه الأول من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع.

الوجه الثاني من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع؛ أن من لازم ذلك أن كل من أخبر الله عنهم من أهل الكفر وأوعدهم بالهلاك أو أوقع عليهم هلاكاً، أنهم في الحقيقة معذورون، فإذا كانوا معذورين فلماذا يعذبهم الله جل وعلا، فإنه بعث الرسل لقطع العذر، فلم ينفع بعث الرسل لهؤلاء؛ لأنهم كذبوا وخالفوا وأوقع الله عليهم من العذاب والعقاب ما ذكره الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمم، فدل ذلك على أن الاحتجاج بالقدر باطل؛ لأنه لو لم يكن باطلاً لكان إبليس وفرعون وقوم نوح وغيرهم من الأمم التي أخبر الله بإهلاكها وعقابها لكانوا معذورين فيما هم فيه من الكفر؛ لأنه بقضاء الله وقدره.

الوجه الثالث من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر: أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الأمر والنهي وعلى إبطال الشريعة، يفضي إلى التسوية بين أولياء الله عز وجل وبين أعدائه؛ لأن المميز والفارق بين أعداء الله وبين أوليائه أن هؤلاء امتثلوا الأمر فكانوا أولياء لله عز وجل، وأن هؤلاء عصوا الله عز وجل وخالفوا أمره فكانوا أعداءً له جل وعلا، فإذا كان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة صحيحاً، فإن من لازم ذلك أن يلغى التفريق بين المؤمنين والكفار، وبين الأعمى والبصير، وبين المهتدي والضال، وقد جاء في كتاب الله في مواضع كثيرة ذكر الفرق بين هؤلاء كما قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:١٩-٢١] .

ولو كان القدر حجة للفريقين على ما هم فيه لانتفى الفرق ولاستوى هؤلاء جميعاً، وقد قال الله جل وعلا: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:٢٨] ، وهذا استفهام فيه إنكار التسوية بين هذين الفريقين.

الوجه الرابع من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على الشريعة: ما جاء من حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة وعلم مقعده من النار.

فقال بعض الصحابة: ففيمَ العمل يا رسول الله؟! أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .

فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم القدر مسوغاً لترك العمل، بل لما قالوا له: أفنتكل على الكتاب وندع العمل؟ قال لهم صلى الله عليه وسلم: (اعملوا) ولم يقل: اتركوا، أو: اعتمدوا على الكتاب، أو: اعتمدوا على التقدير وإنما قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .

وكذلك جاء في حديث سراقة بن مالك في صحيح الإمام مسلم أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، فقال رجل: ففيمَ العمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وهذا يبين لنا أن الاحتجاج بالقدر من أبطل ما يكون في إبطال الشرائع، أي: أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة وعدم العمل بها وإهدار الأمر والنهي من أفسد ما يكون؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .

ومن أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر أيضاً: أنه لو كان القدر حجة على إبطال الشريعة لما عذب الله أحداً في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لو عذبهم مع كون القدر حجة لهم لكان ظالماً لهم، حيث إنه لم يمض ما هو حجة، لكن لما كان القدر ليس حجة في إبطال الشريعة عذب الله من خالف أمره، وجعل المخالفة سبباً للعقوبة.

وبعد هذا العرض الموجز لبعض الأوجه التي يتبين بها فساد الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة وترك العمل، نعلم علماً يقيناً لا يخالطه ريب ولا شك أن أهل السنة والجماعة على حق في هذا، وأنهم وسط بين الفريقين المختلفين: بين من ألغى قدر الله عز وجل وقدرته على خلق أفعال العباد، وبين من ألغى قدرة الإنسان واختياره فيما يكون منه وما يصدر عنه.

قال رحمه الله: (ونعلم أنه سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك) .

وهذا أيضاً يضاف إلى الأوجه التي يبطل بها الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة.

فنعلم أنه سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، أي: المستطيع على القيام بما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، وأنه لم يجبر أحداً على المعصية، أي: ليس هناك إجبار على المعصية، بل العاصي يعصي الله جل وعلا بإرادته واختياره، وكون الله جل وعلا علم ذلك وكتبه وشاءه وخلقه، لا ينافي اختيار العبد، بل العبد مختار لما يفعل ولما يقع منه من معصية الله عز وجل في ترك الواجبات ومواقعة المنهيات والمحرمات، فالعبد ليس مجبوراً على معصية الله عز وجل، بل له الاختيار التام في طاعة الله عز وجل والتزام شرعه، وفي معصيته سبحانه وتعالى والإعراض عن دينه، ولذلك رتب الله العقاب والثواب على امتثال الأمر وترك النهي، فمن امتثل فاز بالفضل، ومن أعرض وتنكب وواقع ما حرم الله عز وجل استحق العقوبة.

قال رحمه الله: (ولا اضطره إلى ترك الطاعة) أي: ما اضطره الله جل وعلا إلى ترك طاعة، بل معصية العاصي هي بفعله ومشيئته واختياره، وطاعة الطائع هي بمشيئته واختياره؛ ولذلك إذا وقعت المعصية إكراهاً لم تترتب عليها العقوبة، حتى لو كانت هذه المعصية أكبر ما يكون من المعصية ألا وهي الكفر، كما قال الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦] ، فإن الله سبحانه وتعالى استثنى من المؤاخذة من أكره وكان منشرح الصدر بالإيمان ومطمئن القلب بحقائق الإسلام، فإنه لا يؤاخذ على ما يكون منه، فدل ذلك على أن الإكراه يخرج الإنسان عن التكليف.

<<  <  ج: ص:  >  >>