[نداء الله ومناجاته لموسى بحرف وصوت]
يقول رحمه الله: (وقال سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى} [طه:١١] * {إِنِّي أَنَا رَبُّك} [طه:١٢] ) .
(فلما أتاها) أي: أتى الشجرة، (نودي يا موسى) أي: ناداه الله جل وعلا، فالمنادي هو الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ذكره المؤلف وهو قوله سبحانه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:١٤] ، ولا يسوغ أن يصدر هذا من غير الله جل وعلا، فلا يسوغ أن يصدر من مخلوق كما تقول المعتزلة؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يقول لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:١٤] ، فهذا الكلام لا يجوز أن يصدر إلا من الرب جل وعلا.
ويقول رحمه الله: (وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله جل وعلا) ؛ لأنه لا يجوز أن يوصف بهذا إلا الله المتكلم بذلك، فلا يجوز أن يكون من خلق خلقه، ولا يجوز أن يكون من الشجرة، ولا من ملك، إنما هو من الله جل وعلا.
فموسى عليه السلام اختصه الله جل وعلا بالتكليم، نداءً ونجاءً، والله جل وعلا قد أخبر في عشرة مواضع في كتابه بأنه ينادي، والنداء في لغة العرب: الكلام بصوت عال، فدل ذلك على أن كلام الله بحرف وصوت؛ لأنه لا يمكن أن يكون الكلام نداء إلا إذا كان بصوت، ولذلك ميز الله جل علا في كلامه لموسى بين نوعين من الكلام، بين النداء الذي يدعى به البعيد، ويسمع بصوت عال، وبين النجاء الذي يكون بين المتقاربين الذي لا يحتاج معه إلى رفع الصوت، قال الله عز وجل: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:٥٢] فجمع الله لموسى بين النداء وهو الصوت العالي، وبين النجاء وهو الكلام بصوت خفي، فدل ذلك على أن كلام الله جل وعلا بصوت.
وفي قوله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:١٦٤] ذكرنا وجهاً من أوجه التحريف المعنوي، قالوا: (كلم) معناها: جرح، هذا نجعله من أمثلة التحريف المعنوي، وهذه الآية يجتمع فيها أيضاً نوع آخر من أنواع التحريف سلكه بعضهم وهو التحريف اللفظي، حيث نصبوا لفظ الجلالة في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤] فجعلوا موسى هو المتكلِّم، هكذا طلب أحد أئمة البدع من بعض القراء أن يقرأ الآية، قال له: اقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) ، فأجابه بقوله: إن أجبتك في هذه فكيف تصنع في قوله تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] يعني: لا سبيل إلى إلغاء تلك القراءة؛ لأنه واضح في تلك القراءة أن الكلام مضاف إلى الله جل وعلا، فهذه الآية حاول بعضهم أن يحرفها تحريفاً لفظياً لكنه عجز.
قال رحمه الله بعد ذلك: (قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي الصحيحين: (إذا تكلم الله في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم) والضمير في (كأنه) يعود إلى كلام الله عز وجل، فـ (كأنه سلسلة) أي: أن صوت الله عز وجل كالسلسلة على الصفوان، والسلسلة: الحديدة التي يربط بعضها بعضاً بحلق صغيرة، أي: كضرب سلسلة على صفوان، والصفوان هو الحجر، أي: يصدر صوت عظيم ينفذهم من جراء تكلم الرب جل وعلا.
ثم قال رحمه الله: (وروى عبد الله بن أنيس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان) ، يحشر، أي: يجمع الخلائق يوم القيامة، والخلائق: بني آدم والجن وسائر ما خلقه الله جل وعلا، فكل ما له روح يبعثه الله عز وجل يوم القيامة، كما قال الله جل وعلا في ذكر الحشر: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:٥] فالوحوش تحشر يوم القيامة، والوحوش هي كل حيوان متوحش، فإذا كانت الحيوانات المتوحشة التي تفر وتهرب من غيرها تحشر، فما بالك بالحيوانات التي تألف الناس وتكون بينهم! فإن حشرها أيسر، وإنما ذكر الوحوش لأنها في الغالب تهرب ممن يريدها ويطلبها، فهي لا تتمكن يوم القيامة من الهرب من الله جل وعلا، بل يأتي بها الله جل وعلا محشورة، وكما قال تعالى في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:٣٨] أي: كل هؤلاء يحشرون إلى الله عز وجل، فكل ما يدب على الأرض ويطير في السماء فإنه يحشر إلى الله جل وعلا، هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة) ، لكن هنا ذكر صفة حشر بني آدم لأنهم هم المقصودون الأولون بحشر يوم القيامة؛ لأن الجزاء والحساب يطغو عليهم قبل غيرهم، وما يكون من جزاء وحساب لغيرهم فهو تابع لهم.
قوله: (حفاة عراة غرلا) أي: مجردين من كل لباس، (حفاة) : أي: ليس معهم ما يقيهم حر وأهوال ذلك اليوم، (غرلاً) : أي: قد كمل خلقهم، فما فرط الله من خلقهم في شيء، بل يأتون غرلاً، أي: غير مختونين كما خلقهم الله جل وعلا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤] .
(فيناديهم الله جل وعلا بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) أي: يسمعه كل أحد، قوله: (أنا الملك أنا الديان) : هذا فيه فائدة، وهي أن الناس في حشرهم متفاوتون في المكان على اتساع المكان، فهم منتشرون فيه، فيهم البعيد وفيهم القريب، يسمعهم الله جل وعلا، يقول: أنا الملك أنا الديان، وهذا لا يكون إلا من الله جل وعلا.
(أنا الملك) : فلا ملك غيره جل وعلا في ذلك اليوم، كما قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] ، بل كل ملك يسقط فلا يبقى إلا ملك الله جل وعلا، مع أنه مالك الدنيا والآخرة، ولكن يظهر ملكه في ذلك اليوم؛ لأنه لا منازع له فيه سبحانه وبحمده.
(أنا الديان) : أي: أنا الذي أحاسبكم، فالديان فعال من المحاسب، أي: كثير الحساب، فهو يحاسبهم جل وعلا حساباً سريعاً يقضي به الحقوق، ويجزي به على الأعمال.
يقول رحمه الله: (رواه الأئمة واستشهد به البخاري) ، والشاهد في هذا الحديث قوله: (يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان) ، وهذا فيه فائدة، وهي أن كلام الله جل وعلا بصوت، فإن الله جل وعلا أخبر بأن النداء بصوت، وإنما ذكر الصوت هنا تأكيداً، وإلا فالنداء لا يكون إلا بصوت رفيع كما ذكرنا عن لسان العرب.
ثم ذكر بعد ذلك: قال: (وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار) إلى آخر ما ذكر.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.