للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «١» ، وهي دعوة حارة سخنت من نار الغضب صادرة من أعمال النفس، فكانت في السماء متصعدة، شأن الهواء إذا سخن بعيدة المدى، شأن القنبلة إذا أطلقت من مدفع بعيد الغور، فما تزال تشق أجواء الفضاء لا يحجبها حاجب ولا يردها صادر حتى تصل إلى السماء، فتخترق طبقاتها، وتنفذ من بنائها، فيتقبلها ربها بردا وسلاما لمن دعا، ونارا وجحيما لمن ظلمه، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط هذا المعنى من قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً «٢» ، فالدعوة مشروعة بقوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، ومقبولة مسموعة بتعقيب الاستثناء بقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً، وقد جاء في حديث رواه أحمد بسند حسن: قبول دعوة المظلوم وإن كان فاجرا، وأن فجوره على نفسه لا يقف دون دعوته. وجاء في الحديث أن إجابة الدعاء على ثلاث مراتب إما أن يجاب الداعي إلى ما طلب، وإما أن يدخر له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، فلا تعجب إذا لم تجب إلى عين ما طلبت وقد ظلمت، فإن الله عليم حكيم قد تقتضي حكمته عدم الإجابة إلى ما سألت وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «٣» .

وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم واليه وعامله، وبعيثه وقاضيه من دعوة المظلوم، وأمره أن يتخذ من دونها وقاية، وما اتقاؤها إلا بتجنب أسبابها، فلا يظلم أحدا ممن تحت ولايته في نفسه إيذاء، أو في ماله بانتقاص كأن يأخذ في الزكاة كرائم أمواله، ونجائب «٤» حيوانه، دون الوسط من ذلك، فيوغر صدره ويسن لسانه؛ ويبعث بدعوة المظلوم من قلبه، ولا يحابي في عمله الأغنياء، ويعرض عن الفقراء، ولا يعفو عن ظالم لمكانة أو وجاهة، ولا يقبل رشوة أو شفاعة أو باطل، وإن كان قاضيا تجنب المحاباة ووزع المساواة، وأخذ للضعيف من القوي وتحرى الحق في قضائه، والعدل في أحكامه. إلى غير ذلك من آداب الولاة والقضاة، فليكن قاضي الجنة، والإمام العادل الذي يظله الله في يوم لا ظل إلا ظله.


(١) سورة الشورى، الآية: ٤١.
(٢) سورة النساء، الآية: ١٤٨.
(٣) سورة آل عمران، الآية: ٦٦.
(٤) أي أفضلها.

<<  <   >  >>