{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم: ٣]، وقوله:{وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً}[الإسراء: ٧٤] فنفي المقاربة للركون فضلاً عن الركون، ثم ذكر الشوكاني عن البزار: أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال: هي غير ثابتة من جهة النقل، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة: أن هذه القصة من وضع الزنادقة، وأبطلها ابن العربي المالكي، والفخر الرازي، وجماعات كثيرة، وقراءته -صلى الله عليه وسلم- سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق. وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال.
وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري:
(إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلاً.)
فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها، وأقربها: أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتل السورة ترتيلاً تتخلله سكتات، فلما قرأ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم: ٢٠] قال الشيطان- لعنه الله- محاكياً لصوته: تلك الغرانيق العلى … إلخ فظن المشركون أن الصوت صوته -صلى الله عليه وسلم-، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحاً وافياً، واختصرناها هنا، وفي كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
والحاصل: أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإلقاء على لسانه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر شرعاً، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان. فتبين أن نطق النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك الكفر، ولو سهواً مستحيل شرعاً، وقد دل القرآن على بطلانه، وهو باطل قطعاً على كل حال، والغرانيق: الطير البيض المعروفة واحدها: غرنوق كزنبور وفردوس، وفيه لغات غير ذلك، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم).