للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هلاك الجنة، وقيل: لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: ٣٥] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء، فقد قال الخفاجي: إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل وَهِيَ أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوِيَةٌ أي ساقطة، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا. وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى: عَلى عُرُوشِها بذلك، والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر، ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب، وحينئذ يجوز أن يراد من هِيَ الجنة بجميع ما اشتملت عليه وَيَقُولُ عطف على يُقَلِّبُ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا.

يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولا، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالاتفاق وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وقرأ الاخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «يكن» بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فِئَةٌ غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب، وقد روعي في قوله سبحانه يَنْصُرُونَهُ المعنى فأتى بضمير الجمع.

وقرأ ابن أبي عبلة «ولم تكن له فئة تنصره» مراعاة للفظ فقط، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده، وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل: لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر

<<  <  ج: ص:  >  >>