وقال الحافظ ابن الجوزي: "قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم، فارتقوا منابر التذكير للعوام، فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام! وهل المصحف إلا ورق وعفص وزاج! وإن الله ليس في السماء! وإن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله» كانت خرساء، فأشارت إلى السماء، أي: ليس هو من الأصنام التي تُعبد في الأرض. ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أنّ القرآن حرف وصوت؟! هذا عبارة جبريل! فما زالوا كذلك، حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام". صيد الخاطر (ص: ١٩٥) دار القلم - دمشق، ط/ الأولى، ١٤٢٥ هـ. ولا شك أنّ هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، فهم يعظّمون المصحف ويبجلونه، بل إنّ كثيرًا منهم -كغيرهم من أهل العلم- يحكون الإجماع على كفر من استهان بالمصحف، قال العز بن عبد السلام: "ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب، وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه وصار ماله فيئًا للمسلمين، ويضرب عنقه، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع". طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (٨/ ٢٣٣) المحقق: د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط/ الثانية، ١٤١٣ هـ. والأشعرية حيث قالوا بكفر من استهان بالمصحف لم يقولوا بذلك لأنّ ما في المصحف هو عين ما تكلم الله به، بل لكون ما فيه عبارة عن كلام الله النفسي ودلالة عليه، قال العز بن عبد السلام: "متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت، ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادا في الألواح والأوراق، شكلا ترمقه العيون والأحداق، كما زعم أهل الحشو والنفاق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على كلامه، كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته، وحقّ لما دل عليه وانتسب إليه أن يُعتقد عظمته وترعى حرمته، ولذلك يجب احترام الكعبة والأنبياء والعباد والصلحاء". طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (٨/ ٢١٩).