للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمقاصد غير خفيَّة، والأشباه والنظائر -غالباً- متوفّرة، والجهود قائمة، بخلاف الغيب المطلق الذي تتفاوت أحداثه وحوادثه؛ فيعسُر -أو يستحيل- حصرها في قواعد كليَّة مضبوطة، وهذا النوع من العلوم سمَّاه الشاطبيُّ: (ملح العلم) (١) ،

وهو ما لم يكن قطعيّاً، ولا راجعاً إلى أصل قطعيٍّ، بل إلى ظنّيٍّ، أو


(١) جعل الشاطبي في (المقدمة التاسعة) (١/١٠٧ وما بعد - بتحقيقي) من كتابه «الموافقات» العلمَ ثلاثة أقسام:

القسم الأول: صُلْب العلم: وهو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، والشريعة منزلة على هذا الوجه؛ فهي مطردة وثابتة وحاكمة يُبنى عليها، وهي قواعد معللة مطردة.
والقسم الثاني: المُلَح؛ وهو الذي تكلمنا عنه.
والثالث: ما ليس من صلب العلم، ولا من ملحه؛ وهو ما لا يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يرجع على أصله، أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها، مثل ما انتحله الباطنية، وما يتلمس من علوم الحرف، وعلم النجوم من التكهنات والغيبيات.
وقرر أنَّه قد يعرض للقسم الأول مَن يُعَدّ من الثاني، ويُعرض للقسم الأول أن يصير من الثالث، قال (١/١٢٣) : «ويتصوّر ذلك فيمن يتبجَّح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقلُه إلا صغارها على ضد التربية المشروعة» ، وقال (١/١٢٤) :
«وإذا عرض للقسم الأول أن يُعدَّ من الثالث؛ فأولى أن يعرض للثاني أن يُعدَّ من الثالث؛ لأنَّه أقرب إليه من الأول» .
قال أبو عبيدة: هذا بيت القصيد؛ فإنّ جماعة عبثوا وخاضوا في أحاديث أشراط الساعة والملاحم والفتن، وصنيعهم فيها صنيع أهل الباطن، وأصبح جهدهم بحاجة إلى تقويم، وانطبق عليهم تأصيل الشاطبي هذا؛ فأخرجوها من (الملح) التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، إذ ليس يصحبها مُنفِّر، ولا هي مما تُعادي العلوم؛ لأنها ذاتُ أصل مبنيٍّ عليه في الجملة إلى ما ليس من (الصُّلب) ولا من (الملح) ، وإن مالوا بالعوام؛ فاستحسنوا صنيعهم وطلبوه، لا لذاته، ولا لبهائه، وإنما للملابسات التي يعيشونها، ولشُبَهٍ عارضةٍ انقدحت عندهم، واشتباه بينه وبين صنيع الأفذاذ من العلماء ممن تكلموا على أشراط الساعة؛ فربما عدّ بعض المتعجِّلين المتحمِّسين من المطّلعين على كتابات ومؤلفات هؤلاء على أصل؛ فمالوا إليه من هذا الوجه، وحقيقة أصله -كما سيتبرهن لك مما سيأتي قريباً -إن شاء الله تعالى- وَهْم وتخييل، لا حقيقة له، وزاد الطين بِلَّة: =

<<  <  ج: ص:  >  >>