يمتنع بعض ما كان جائزاً هناك، وذلك أن قوله «من حسابك» لا يجوز أن يُنْصَبَ على الحال لأنه يلزمُ تقدُّمه على عامله المعنوي، وهو ضعيفٌ أو ممتنع، لا سيما وقد تقدَّمَتْ هنا على العامل فيها وعلى صاحبها، وقد تقدَّم لك أن الحال إذا كانت ظرفاً أو حرفَ جر كان تقديمُها على العامل المعنويِّ أحسنَ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذ لك أن تجعل قوله «مِنْ حسابك» بياناً لا حالاً ولا خبراً حتى تخرجَ من هذا المحذورِ، وكَوْنُ «مِنْ» هذه تبعيضيةً غيرُ ظاهر، وقدَّم خطابَه عليه السلام في الجملتين تشريفاً له، ولو جاءت الجملة الثانية على نَمَط الأولى لكان التركيب:«وما عليهم مِنْ حسابك من شيء» فتقدَّم المجرور ب «على» كما قَدَّمه في الأولى، لكنه عَدَل عن ذلك لما تقدم.
وفي هاتين الجملتين ما يُسَمِّيه أهل البديع: ردَّ الأعجاز على الصدور، كقولهم:«عادات السادات سادات العادات» ، ومثله في المعنى قول الشاعر:
١٩٣ - ١- وليس الذي حَلَّلْتَه بمُحَلَّلٍ ... وليس الذي حَرَّمْتَه بمُحَرَّم
وقال الزمخشري: - بعد كلامٍ قَدَّمَه في معنى التفسير - «فإن قلت أما كفى قولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} حتى ضمَّ إليه {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيءٍ} قلت: قد جُعِلَتِ الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقُصِد بهما مُؤدَّىً واحدٌ وهو المَعْنِيُّ بقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى}[الأنعام: ١٦٤] ، ولا يَسْتَقِلُّ بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل: لا تُؤاخَدُ أنت ولا هم بحسابِ صاحبه» .
قال الشيخ:«قوله: لا تُؤاخَذُ أنت إلى آخره» تركيبٌ غير عربي،