وقد ذكرنا في الباب الأول أن محبة الله -عز وجل- الواجبة تقتضي محبة ما أوجب من الطاعات وامتثالها، وكراهة ما كرهه من المحرمات واجتنابها، وأن محبته المستحبة تقتضي محبة التقرب إِلَيْهِ بالنوافل والورع عن دقائق المكروهات، والمحبة الواجبة تقتضي أيضاً مخالفة الهوى، وإيثار ما يحبه ويرضاه عَلَى ما تشتهيه الأنفس وتهواه، فإذا تمكنت المحبة في القلب، وامتلأ القلب منها أخرجت من القلب محبة كل ما يكرهه الله فلم يبق في القلب سوى محبة الله ومحبة ما يحبه، فلم تنبعث الجوارح إلا إِلَى الطاعات التي تقتضي التقرب إِلَى الله، وصارت النفس حينئذ مطمئنة.
إِلَى هذا الإشارة في الحديث الإلهي:"فَإِذَا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمع به، وبصره الَّذِي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... "، وقد سبق ذكره.
وروى إبراهيم بن الجنيد بإسناده عن فرقد السبخي قال:"قرأت في بعض الكتب: من أَحَبّ الله -تعالى- لم يكن شيء عنده آثر من هواه، ومن أَحَبّ الدُّنْيَا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه".
والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله - عز وجل- يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إِلَى خلقه، ويمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، وأولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.
وعن ثور بن زيد قال:"نظر الله -عز وجل- إِلَى داود -عليه السلام- وهو وحداني منتبذ، فَقَالَ: مالك وحداني؟ قال: "عاديت الخلق فيك.