للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال الثوريُّ: إِنَّما فُضلَ العلمُ؛ لأنَّهُ يُتقى به اللَّه، وإلًا كَانَ كسائر الأشياءِ.

فَإِذَا طلبَ بشيء من هذا عَرضَ الدُّنْيَا الفاني فهو -أيضَا- نوعانِ:

أحدهما: أن يطلبَ به المالَ، فهذا من نوعِ الحرصِ عَلَى المالِ وطلبهِ بالأَسبابِ المحرَّمةِ.

وفي هذا الحديث عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعني: رِيحَها.

خرّجهُ الإمامُ أحمد (١)، وأبو داود (٢)، وابنُ ماجه (٣)، وابنُ حبانَ في "صحيحه" (٤) من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وسببُ هذا -واللُّه أعلمُ- أَنَّ في الدُّنْيَا جنةً مُعجَّلةً، وهي معرفةُ الله ومحبتُهُ، والأُنسُ به والشَّوقُ إِلَى لقائِهِ، وخشيتُهُ وطاعتُهُ، والعلمُ النافعُ يدلُّ عَلَى ذلك، فمن دلَّهُ علمهُ عَلَى دخول هذه الجنةِ المُعجَّلةِ في الدُّنْيَا دَخَلَ الجنةَ في الآخرةِ، ومن لم يشُم رائحتَها لم يشُم رائحةَ الجنةِ في الآخرةِ.

ولهذا كان أشد الناس عذابًا في الآخرة عالمٌ لم ينفعهُ اللَّه بعلمهِ، وهو أشدُّ الناسِ حسرةً يومَ القيامةِ، حيثُ كان معهُ آلةٌ يتوصَّلُ بها إِلَى أعلى الدَّرجاتِ وأَرفعِ المقاماتِ، فلم يستعملها إلا في التوصُّل إِلَى أَخَسِّ الأمورِ وأدناهَا وأحقرِهَا، فهو كمن كان معهُ جواهرُ نفيسةٌ لها قيمةٌ، فباعَها ببعر أو شيءٍ مستقذَرٍ لا يُنتفَعُ بهِ، بل حالُ من يطلبُ الدُّنْيَا بعلمهِ، أقبح وأقبحُ وكذلك من يطلبُها بإظهارِ الزهدِ فيها، فإنَّ ذلكَ خداعٌ قبيحٌ جدًّا.


(١) في "المسند" (٢/ ٣٣٨).
(٢) في "السنن" (٣٦٦٤).
(٣) في "السنن" (٢٥٢، ٢٦٠).
(٤) كما في "الإحسان" (٧٨).