قال: ما تراه صانعًا بالشهداء؟ غفر لي وأدخلني الجنّة، قال: فلما ولّى نظرت إِلَى آثار السّياط بظهره، فقلت له: مكانك! قال: أو رأيت؟ قلت: نعم.
قال: قل لأبي -وكان أبوه يومئذ حيًّا- يا شقي، ذاك الدّاذي (١) الَّذِي كنا نشرب أنا وأنت!! لا تشرب فإني أنا الَّذِي قُتلت في سبيل الله لم أترك أن جلدت عليه حدًّا.
واعلم أن شرب الخمر لو لم يرد الشرع بتحريمه لكان العقل يقتضي تقبيحه، بما فيه من إزالة العقل -الَّذِي به شرف الآدمي عَلَى الحيوانات- فيصير مشاركًا لبقية البهائم، أو أسوأ حالاً منها، فمنهم من يتلطخ بالنجاسات والأقذار والقيء، ومنهنم من يتشبه بالخنزير، أو يقتل أو يجرح فيشبه السّباع الجوارح، كالكلب العقور ونحوه.
أيها الشارب للخمر تنبّه ... لجناياتها فأنت لبيب
إنها للستور هتك، وبالألبا ... ب فتك وفي المعاد ذنوب
ولهذا حرّمها كثير من أهل الجاهلية قبل الإسلام.
قال بعضهم: جاء السكر إِلَى أَحَبّ خلق الله إِلَيْهِ فأفسده. يعني: العقل.
وربما يصير المجنون الَّذِي يصرع أحسن حالاً من السكران، قال أبو إسحاق الفزاري: رأيت مجنونًا يصرع يسوِّي رأس سكران.
ورُئي سعدون المعتوه جالسًا عند رأس شيخ سكران يذبّ عنه، فسئل عنه، فَقَالَ: هذا مجنون، فقِيلَ لَهُ: أنت مجنون أو هو؟ قال: بل هو، قال: ثم قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة ولم يصلّ هو جماعة ولا فرادى، قيل له: هل قلت في ذلك شيئًا؟ قال: نعم.
تركت النّبيذ لأهل النّبيذ ... وأصبحت أشرب ماء قراحًا
(١) في "الأصل": الرأي. والمثبت من كتاب "ذم الهوى" لابن أبي الدُّنْيَا؛ فقد أخرجها ابن أبي الدُّنْيَا (ص ٧٥)، والداذي: حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر. راجع "النهاية" (٢/ ١٤٧).