للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن بعدهم. ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العِلْم، ولا ادَّعى فيه طعنًا عَلَى من ردَّ عليه قوله، ولا ذمًّا ولا نقصًا، اللهم إلا أن يكون المصنَّفُ يُفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة فيُنكرُ عليه فحاشتُه وإساءتُه دون أصل رده، ومخالفته إقامة الحجج الشرية، والأدلة المُعتبرة.

وسبب ذلك أن علماء الدين كلهم مُجمعون عَلَى قصد إظهار الحق الَّذِي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكون الدينُ كلُّه لله، وأن تكون كلمته هي العليا.

وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كلِّه -من غير شذوذ شيء منه- ليس هو مرتبةَ أحدٍ منهم، ولا ادَّعاه أحدٌ من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السَّلف المجمع عَلَى علمهم وفضلهم يقبلون الحقَّ ممن أورده عليهم، وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعَهُم بقَبول الحق إذا ظهر في غير قولهم.

كما قالَ عُمر في مهور النساء، وردَّت تلك المرأة عليه بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (١) فرجع عن قوله وقال: "أصابت امرأةٌ ورجلٌ أخطأ"، ورُوي عنه أنه قال: "كل أحد أفقه من عمر".

وكان بعضُ المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول: "هذا رأينا، فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه".

وكان الشافعي يُبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتِّباع الحق، وقبول السنة، إذا ظهرت لهم عَلَى خلاف قولهم، وأن يضرب بقوله حينئذ الحائط، وكان يقول في كتبه: لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (٢).

وأبلغُ من هذا، أنه قال: "ما نَاظَرني أحدٌ فباليتُ، أظهرت الحجةُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني". وهذا يدلُّ عَلَى أنه لم يكن له قصدٌ إلا في ظهور الحق ولو كان عَلَى لسان غيره ممَّن يناظرُه أو يخالفه.


(١) النساء: ٢٠.
(٢) النساء: ٨٢.