للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ميمون بن مهران فانتهيتُ إِلَيْهِ فاستأذَنتُ فدخلتُ عليه، وإذا تحته مِسحٌ (١) خلق وشاذكونة خلقة ومرفقة (٢) قد ترفق بها، فوسَّع لي لأجلس معه، فجلست مقابله، فقلت: ما ها هنا أحبُّ إلي وإذا بين يديه مائدةٌ عليها ثلاثةُ أرغفةٍ وقصعة فيها خَل وزيتٌ. فقلت: هذا طعامُك في كل يوم؛ فَقَالَ: إِنَّ أمير المؤمنين صيَّر الدهر أثلاثًا: فيومٌ خبزٌ ولحم، ويومٌ لبن، ويومٌ خبزٌ وزيت. فبينا أنا كذلك إذ جاء غلام له فَقَالَ: قد فَرَّغناها. فأعرض عنه فعاود، فقلت: ما هذا الَّذِي فرغ؟ قال: الحمام. قلت: هل الحمامُ لك؟ قال: لا. قلت: فلأحد من إخوانك؟ قال: لا. قلت: فلأحدٍ من أهل بيتك؟ قال: لا. قلت: فلأمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فبم استحللتَ أن تفرغَ حمامَ المسلمين فلَعلَّ إذا رجل يجيء من أقصى المدينةِ فيحالُ بينه وبين الحمام، أو تعطيه بقدر شغل حمامه؛ فهذه نفقةٌ باطلة، هذا أريد أن أُنهيَهُ (٣) إلي أمير المؤمنين. قال: أوتسترُ علي يا عم، واللهِ ما يسرني أنه وَجَدَ عليَّ ساعة من نهار، ثم أتاني عنه الرضا، ولا أنَّ ليَ الدُّنْيَا وما فيها، ولك عليَّ ألا أدخل الحمام إلا ليلاً ومع ضعفةِ الناسِ. قال: قلت له: افعل. فخرجت من عنده، فما رأيت أفضل من عمر بن عبد العزيز، ولا ابنًا أفضل من عبد الملك -رضي الله عنهما.

وقد رُويته هذه القصة من وجه آخر، وفيه: أن عبد الملك قال: لولا برد بلادنا ما دخلته -يعني: الحمام- ليلاً ولا نهارًا.

وأنه إِنَّمَا كان امتناعه من دخوله مع الناس، خشية أن يرى فيه منكرًا، {فيؤدب} (٤) فاعله، فربما خشي أن يجاوز حدَّ الأدب {أو أن يُنسَبَ} (٤) إِلَى شيء من الظلم في ذلك، وسيأتي {ذكر} (٤) ذلك فيما بعد -إِنَّ شاء الله تعالى.


(١) المسح: الكساء من الشعر. "لسان العرب" (٢/ ٥٩٦).
(٢) المرفقة: المتكأ والمخدة.
(٣) أنهيه. أنهي الشيء أي أبلغه
(٤) طمس بالأصل، والسياق يقتضيها.