للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إِلَى الجهل، وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العُلَمَاء إِلَى الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف.

وأهل العِلْم النافع عَلَى ضد هذا. يسيئون الظن بأنفسهم، ويحسنون الظن بمن سلف من العُلَمَاء، ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها.

وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود: أيهما أفضل؟ فَقَالَ: والله ما نحن بأهل أن نذكرهم، فكيف نفضل بينهم؟!.

وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:

لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا عَلَى من تقدمه في المقال وتشقق الكلام، ظن لنفسه عليهم فضلا في العِلْم أو الدرجة عند الله لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه، وأزرى عليه بقلة العِلْم، ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إِنَّمَا كان ورعًا وخشية لله، ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك، كما قال ابن عباس لقوم سمعهم يتمارون في الدين: أما علمتم أن لله عبادًا أسكتتهم خشية الله من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم العُلَمَاء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العُلَمَاء بأيام الله غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت لذلك عقولهم وانكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك يسارعون إِلَى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم من المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برآء، إلا أنهم لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال، هم حيث ما لقيتهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون. خرجه أبو نعيم (١) وغيره (٢).


(١) في الحلية (١/ ٣٢٥).
(٢) وأخرجه ابن المبارك في الزهد (١٤٩٥)، وأحمد في الزهد ص ٤٣، والآجري في الشريعة ص ٥٩، ٦٠.