وتارة بالإخبار مثل ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٩٦]، ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]، و ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] (١)، وتارة بما رتب عليها في العاجل أو الآجل من خير أو شر أو نفع أو ضر (٢).
(١) أي: وتارة يستدل على الأحكام بأسلوب الإخبار عن الحكم، كالحل والحرمة، والكتب، أي: الفرض.
(٢) وهذا أيضًا يدخل في الأسلوب الخبري، إلّا أنّه مختص بذكر خاصة من خواص الحكم، كذكره خاصة الواجب، وهو الوعيد على الترك، وذلك بالتّرهيب، أو بذكر ما يترتب عليه في العاجل أو الأجل من شر حال التّرك، أو خير حال الفعل، ويشترك المندوب معه في الخير حال الفعل.
ويمكن تقسيم الأساليب الخبرية الدّالة على الحكم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أسلوب الإخبار عن حكم الشارع: وفيه يخبر المولى ﷾ عن الحكم إما بلفظ صريح، أو ظاهر، والأحكام التكليفية خمسة، ولكل حكم ألفاظ أخبر بها الشارع، وبيان ذلك:
أولاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للوجوب.
١. إثبات الحكم بلفظ الفرض وما تصرف منه: ومن أمثلته:
قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٠]، أي: ما فرضنا عليهم التزامه من الأحكام المتعلقة بالزوجات، والإماء، مثل عدم الزيادة على أربع نسوة، وعدم الزواج إلا بِوَلِيّ وشهود، أو أن تكون المرأة الموطوءة بملك اليمين مسلمة أو كتابية، وأن تستبرأ قبل الوطء، فهذه جملة من الأحكام التي فرضها الله على المؤمنين، فيجب التزامها.
وقوله تعالى بعد أن بين مصارف الزكاة والصدقات: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٦٠]، والتقدير: «فرض الله هذه الأشياء فريضة».
٢. إثبات الحكم بلفظ الكتب وما تصرف منه، فقد ورد بلفظ «كتب" ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣]، وقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦]، وورد بلفظ «كتاب" ومن أمثلته: قوله تعالى ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] أي: الزموا ما كتب الله عليكم، أي: فرضه. ومثله قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] أي: واجبًاً مفروضاً مؤقتًا وقّته الله عليهم.
٣. إثبات الحكم بلفظ الأمر وما يتصرف منه، ومن أمثلته: ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠] وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨]، وقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: ٦٠].
٤. إثبات الحكم بلفظ «قضى» ومن أمثلته: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣].
٥. إثبات الحكم بلفظ «وصى» وما تصرف منه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]، وقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء: ١١]، وقوله في آية المواريث: ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٢].
٦. الدلالة على الحكم بلفظ (على) ملفوظًا، أو مقدّرًا، ومن ذلك قوله تعالى في آية الصيام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] وقوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] وجاء بصيغة الجمع كقوله تعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥].
أما المقدَّر فيه لفظ (على) فهو كثير في كتاب الله، أكتفي بمثال واحد، وهو ما ورد في آية الظهار.
يقول القرطبي: «قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ هذا ابتداء، والخبر: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ وحذف «عليهم» لدلالة الكلام عليه، أي: فعليهم تحرير رقبة».
٧. وصف الشارع للفعل بأنه (حق)، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [البقرة: ١٤٩]، وقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١].
٨. إثبات الحكم بلفظ العزيمة وما تصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧] أي: من الأمور الواجبة المعزومة؛ أي المقطوعة، كما يقول الرازي.
ثانياً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للندب.
١. إثبات الحكم بلفظ التطوع، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤]. قيل: الإطعام مع الصيام. وقيل: إطعام مسكين آخر.
٢. إثبات الحكم بلفظ النافلة، قال تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩]
ثالثاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للتحريم.
إثبات الحكم بلفظ التحريم وما يتصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]
١. إثبات الحكم بلفظ النهي، وما يتصرف منه: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: ٩٠]
٢. إثبات الحكم بلفظ (نفي الحل): ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء: ١٩]
٣. إثبات الحكم بلفظ الكراهة، وهو مشترك بين التحريم والكراهة: ومن ذلك قوله تعالى:
﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨].
رابعاً: الإخبار عن حكم الشارع المقتضي للإباحة.
١. إثبات الحكم بلفظ الحل: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ [البقرة: ٢٧٥] ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]
٢. إثبات الحكم بلفظ (نفي الحرمة): ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢]
٣. إثبات الحكم بلفظ نفي الحرج والجناح: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٩١] قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٣٠].
٤. إثبات الحكم بلفظ نفي الإثم: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ٢٠٣].
٥. إثبات الحكم بلفظ نفي السبيل ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤١] ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٩١].
وهناك أساليب مشتركة بين الوجوب والندب، وبين التحريم والكراهة، وقد جمعت هذه الأساليب في رسائل علمية، من أجمعها كتاب أساليب الحكم الشرعي للدكتور علي المطرودي.
القسم الثاني: من أقسام الأساليب الخبرية الدالة على الحكم هو: ذكر خاصية من خواص الواجب، إما بالوعيد على الترك، أو بترتب العقاب على الترك، أو الذم والتوبيخ، ولها صوَر عديدة، كما أن ترتب الثواب أو المدح على طلب الفعل والأمر به، وله صور متعدّدة.
وهو كما قال السيوطي نقلاً عن عزِّ الدِّين كما سيأتي: «وقد نوّع الشّارع ذلك أنواعًا كثيرة ترغيبًا لعباده، وترهيبا وتقريبًا إلى أفهامهم، … ». هـ.
القسم الثالث: أسلوب الخبر المراد به الأمر، فيما عدا الأسلوبين السابقين، وهو الأسلوب الذي ينبه عليه المفسرون بأنه طلب أو أمر خرج مخرج الخبر، وهو محط أمثلة الأصوليين غالبًا، وهذا الأسلوب يعرف كونه مستعملًا في معنى الأمر من سياق الكلام، وما يستوجه من الإلزام. والمقصود بالإلزام هنا: ما يشير إليه العلماء غالبًا في إثبات كون الصيغة للطلب مثل قولهم: لو لم يكن للطلب للزم الخلف لما هو مشاهد في الواقع، فيقولون -مثلا- عند قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وجدت مطلقات لا يتربصن ثلاثة قروء، ولو كان خبراً محضاً لما تخلف الخبر عن مخبره، لأن أخبار الله تعالى لا تنفك من وجود مخبراتها، فلما وجد الانفكاك علمنا بأنه خرج من الخبرية إلى الإنشائية معنًى دون اللفظ.
يقول الزركشي عن الآية نفسها في كتابه البرهان في علوم القرن (٢/ ٣٢٠): «إن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك لا أنه خبرٌ، وإلا لزم الخلف في الخبر».
أو يقولوا في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، إن الرفث والفسوق والجدال موجود، ولو كان خبراً لما تخلف الخبر عن مخبره، فدلَّ أن المقصود بالخبر هنا النهي، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.
وهذه الأساليب مستفادة من تقسيمات الأصوليين.
يقول المرداوي في التحبير (٢/ ١٨٠): «فائدة: أدلة الأحكام لا تتقيد استفادتها من صريح الأمر والنهي، بل تكون بنص، أو إجماع، أو قياس. والنص إما أن يكون أمرًا، أو نهيًا، أو إذنًا، أو خبرًا بمعناها، أو إخبارًا بالحكم، نحو: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: ١٨٣]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨]، (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) أخرجه البخاري برقم (٦٢٧٠)، ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ [المائدة: ٩٦]، أو بذكر خاصية لأحدهما، كوعيد عن فعل شيء، أو تركه، أو وعد على فعل شيء أو تركه، ونحو ذلك» ا. هـ