للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(٦٥) بَاب بَيَانِ أَنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين

٢٣١ - (١٤٤) وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ؛ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ. فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ. فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ. قَالَ:

تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ. وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ. فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَنْتَ، لِلَّهِ أَبُوكَ! قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

"تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا. فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ.

⦗١٢٩⦘

حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا. فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا. إِلَّا مَا أشرب من مراه".

قَالَ حُذَيْفَةُ: وَحَدَّثْتُهُ؛ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ. قَالَ عُمَرُ: أَكَسْرًا، لَا أَبَا لَكَ! فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ. قُلْتُ: لَا. بَلْ يُكْسَرُ. وَحَدَّثْتُهُ؛ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ. حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ.

⦗١٣٠⦘

قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ! مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ. قَالَ، قُلْتُ: فما الكوز مجخيا؟ قال: منكوسا.


(فتنة الرجل) قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار. قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام، لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء. قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة. وفتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب من فرط محبته لهم، وشحه عليهم، وشغله بهم عن كثير من الخير. كما قال تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة. أو لتفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم، وتأديبهم وتعليمهم، فإنه راع لهم ومسئول عن رعيته. وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا. فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة. ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات، كما قال تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات. (التي تموج موج البحر) أي تضطرب ويدفع بعضها بعضا. وشبهها بموج البحر لشدة عظمها وكثرة شيوعها. (فأسكت القوم) قال جمهور أهل اللغة: سكت وأسكت لغتان بمعنى صمت. وقال الأصمعي: سكت، صمت وأسكت، أطرق. وإنما سكت القوم لأنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة. وإنما حفظوا النوع الأول. (لله أبوك) كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها. فإن الإضافة إلى العظيم تشريف. ولهذا يقال: بيت الله وناقة الله. قال صاحب التحرير: فإذا وجد من الولد ما يحمد، قيل له: لله أبوك حيث أتي بمثلك. (تعرض الفتن) أي تلصق بعرض القلوب، أي جانبها، كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به. (عودا عودا) قال النووي: هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها عودا عودا. والثاني عودا عودا. والثالث عوذا عوذا. ولم يذكر صاحب التحرير غير الأول. وأما القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم واختار الأول أيضا. (فأي قلب أشربها) أي دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب. ومنه قوله تعالى: وأشربوا في قلوبهم العجل، أي حب العجل. ومنه قولهم: ثوب مشرب بحمرة، أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها. (نكت فيه نكتة) أي نقط نقطة. قال ابن دريد وغيره: كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت. (أنكرها) ردها. (مثل الصفا) قال القاضي عياض رحمه الله: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه. لكن صفة أخرى، لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل. وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه. كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. (مربادا) قال الإمام النووي رضي الله تعالى عنه: كذا هو في أصول روايتنا، وأصول بلادنا. وهو منصوب على الحال. وذكر القاضي عياض خلافا في ضبطه، وإن منهم من ضبطه كما ذكرنا، ومنهم من رواه مربئد. قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا. وأصله أن لا يهمز، ويكون مربدا مثل مسود ومحمر. وكذا ذكره أبو عبيد والهروي، وصححه بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سراج لأنه من اربد، إلا على لغة من قال: احمأر، بهمزة بعد ميم لالتقاء الساكنين. فيقال: اربأد ومربئد. والدال مشددة على القولين، وسيأتي تفسيره. (مجخيا) معناه مائلا. كذا قاله الهروي وغيره. وفسره الراوي في الكتاب بقوله: منكوسا. وهو قريب من معنى المائل. قال القاضي عياض: قال لي ابن سراج: ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده بل هو وصف آخر من أوصافه، بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة. ومثله بالكوز المجخي، وبينه بقوله. لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. (إن بينك وبينها) معناه أن تلك الفتن لا يخرج شيء منها في حياتك. (يوشك) أي يقرب. (أكسرا) أي أيكسر كسرا. فإن المكسور لا يمكن إعادته بخلاف المفتوح. ولأن الكسر لا يكون غالبا إلا عن إكراه وغلبة وخلاف عادة. (لا أبا لك) قال صاحب التحرير: هذه كلمة تذكرها العرب للحث على الشيء. ومعناها إن الإنسان إذا كان له أب، وحزبه أمر، ووقع في شدة، عاونه أبوه ورفع عنه بعض الكل، فلا يحتاج من الحد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون. فإذا قيل: لا أبا لك، فمعناه: جد في هذا الأمر وشمر وتأهب تأهب من ليس له معاون. والله أعلم. (ليس بالأغاليط) جمع أغلوطة، وهي التي يغالط بها. فمعناه: حدثته حديثا صدقا محققا، ليس هو من صحف الكتابيين، ولا من اجتهاد ذي الرأي، بل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الحائل بين الفتن والإسلام عمر رضي الله عنه، وهو الباب. فما دام حيا لا تدخل الفتن. فإذا مات دخلت الفتن. وكذا كان. والله أعلم. (شدة البياض) قال القاضي عياض: كان بعض شيوخنا يقول: إنه تصحيف. وهو قول القاضي أبي الوليد الكناني. قال: أري أن صوابه شبه البياض في سواد. وذلك أن شدة البياض في سواد لا يسمى ربدة. وإنما يقال لها: بلق، إذا كان في الجسم. وحور إذا كان في العين. والربدة إنما هو شيء من بياض يسير يخالط السواد كلون أكثر النعام. ومنه قيل للنعامة: ربداء. فصوابه شبه البياض، لا شدة البياض.

<<  <  ج: ص:  >  >>