للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلِلْحُكَمَاءِ كَجَالِينُوسَ وَغَيْرِهِ فِي الْعِشْقِ كَلَامٌ اخْتَصَرَتْهُ. وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْهُ فَقَالَ شُغْلُ قَلْبٍ فَارِغٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَطْنٌ فَرَقَّ، وَظَهْرٌ فَكُثِّفَ، وَامْتَنَعَ وَصْفُهُ عَلَى اللِّسَانِ، فَهُوَ بَيْنَ السِّحْرِ، وَالْجُنُونِ، لَطِيفُ الْمَسْلَكِ، وَالْكُمُونِ.

وُجِدَ فِي صَحِيفَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الْهِنْدِ: الْعِشْقُ ارْتِيَاحٌ جُعِلَ فِي الرُّوحِ، وَهُوَ مَعْنَى تُنْتِجُهُ النُّجُومُ بِمَطَارِحِ شُعَاعِهَا، وَتُوَلِّدُهُ الطَّبَائِعُ بِوَصْلِهِ أَشْكَالَهَا، وَتَقْبَلُهُ النُّفُوسُ بِلُطْفِ خَوَاطِرهَا، وَهُوَ يُعَدُّ جَلَاءً لِلْقُلُوبِ، وَصَيْقَلًا لِلْأَذْهَانِ، مَا لَمْ يُفْرِطْ، فَإِذَا أَفْرَطَ عَادَ سَقْمًا قَاتِلًا، وَمَرَضًا مُنْهِكًا، لَا تَنْفُذُ فِيهِ الْآرَاءُ، وَلَا تَنْجَعُ فِيهِ الْحِيَلُ، الْعِلَاجُ مِنْهُ زِيَادَةٌ فِيهِ.

حَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ يَوْمًا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي وَثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِيَحْيَى خَبِّرْنِي عَنْ حَدِّ الْعِشْقِ؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَوَانِحُ تَسْنَحُ لِلْعَاشِقِ يُؤْثِرُهَا وَيَهْتَمُّ بِهَا تُسَمَّى عِشْقًا. فَقَالَ ثُمَامَةُ اُسْكُتْ يَا يَحْيَى فَإِنَّمَا عَلَيْك أَنْ تُجِيبَ فِي مَسْأَلَةِ الْفِقْهِ وَهَذِهِ صِنَاعَتُنَا. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَجِبْ يَا ثُمَامَةُ. فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا تَقَادَحَتْ جَوَاهِرُ النُّفُوسِ بِوَصْلِ الْمُشَاكَلَةِ أَثْبَتَتْ لَمْحَ نُورٍ سَاطِعٍ تَسْتَضِيءُ بِهِ نَوَاظِرُ الْعَقْلِ فَتَهْتَزُّ لِإِشْرَاقِهِ طَبَائِعُ وَيُتَصَوَّرُ مِنْ ذَلِكَ نُورٌ خَاطِرٌ بِالنَّفْسِ مُتَّصِلٌ بِجَوْهَرِهَا فَيُسَمَّى عِشْقًا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِيمَا أَنْشَدَهُ إِسْحَاقُ الْمُوصِلِيُّ:

فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ ... وَخَلَّيْت قَلْبًا فِي هَوَاك يُعَذَّبُ

وَلَكِنَّمَا أَحْيَا بِقَلْبٍ مُرَوَّعٍ ... فَلَا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلَا الْمَوْتُ يَقْرُبُ

تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَى خَوْفَ سُخْطِهَا ... وَعَلَّمَهَا حُبِّي لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ

وَلِي أَلْفُ وَجْهٍ قَدْ عَرَفْتُ مَكَانَهُ ... وَلَكِنْ بِلَا قَلْبٍ إلَى أَيْنَ يَذْهَبُ

وَقَالَ أَيْضًا:

أَرَى الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ ... إلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ أَنْصَرِفُ

وَلَهُ:

يُقَرِّبُ الشَّوْقُ دَارًا وَهْيَ نَازِحَةٌ ... مَنْ عَالَجَ الشَّوْقَ لَمْ يَسْتَبْعِدْ الدَّارَا

<<  <  ج: ص:  >  >>