والذي جعل بعضَ الناس يفرّ من الإقرار بأن ما بين دفتي المصحف هو كلام الله على الحقيقة، وأنّ الله تعالى تكلم به حقيقة هو ظنّهم أنه إذا أقرّوا بذلك فقد جعلوا صفةّ الكلام القائمة بالله تعالى حالّة في المصحف، وأنها فارقتِ اللهَ تعالى، وانتقلت وحلّت في الورق.
وهذا جهلٌ منهم بحقيقة الأمر؛ فإنّ نقْل الكلام ليس كنقل الأجسام كالأحجار ونحوها، فالحَجَر - مثلاً- إذا نُقِل من موضع إلى آخر زال عن الموضع الأول وانتقل إلى الموضع الآخَر، وليس كذلك الكلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ولهذا يقال: فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه، ويقال: العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك، كما يقال: نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته، وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عُدمت منه وحلّت في الثاني، بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام، وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول، فيبقى المقصود بالأول منقولاً منسوخًا وإن كان لم يتغير الأول، بخلاف نقل الأجسام وتوابعها؛ فإن ذلك إذا نُقل من موضع إلى موضع زال عن الأول"(١).