[موقف السلف من المعترضين على النصوص]
لما ذكر يزيد بن هارون حديث الرؤية: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، (قال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد) وهي: كنية يزيد بن هارون (ما معنى هذا الحديث؟) يعني: حديث (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)؟ (فغضب) يزيد بن هارون (وحرد) يعني: استشاط غضباً، لماذا؟ لأن السائل اعترض على الحديث، (وقال: ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى مثلما فُعِل به) وصبيغ هذا سيذكر المؤلف قصته، وهو رجل كان يأتي بشبه واعتراضات على النصوص، فجلده عمر مائة، ثم جلده مائة حتى سال الدم على وجهه، ونفاه إلى الكوفة، وكتب لعاملها: أن لا يكلمه الناس.
فصار الناس لا يكلمونه، وكلما جاء إلى حلقة طُرد حتى تاب، وقال يا أمير المؤمنين: ذهب ما في رأسي.
فعند ذلك أباح الناس أن يكلموه.
فـ أبو خالد يقول لهذا الرجل الذي اعترض عليه: (ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى مثلما فعل به) أي: تحتاج إلى أن تضرب حتى يذهب ما في رأسك من الشبه، وتحتاج إلى جلد كجلد عمر رضي الله عنه صبيغاً.
ثم قال له: (ويلك! ومن يدري كيف هذا؟) أي: من يدري كيفية الصفة؟ فلا يعلمها أحد إلا الله، فقولك: ما معنى هذا الحديث؟ كأنك تعترض، وتطلب الكيفية، وهذا غلط منك، وتحتاج بسببه إلى تأديب فـ (ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى مثلما فعل به) ولهذا قال له: (ويلك ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث؟) أي: أَثبت الحديث قل: إن المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة.
ثم قال له: (ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلم فيه بشيءٍ من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه؟ ثم قال له: إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم) تماروا يعني: تجادلوا لا يجوز للإنسان أن يجادل، بل يسلم، ولا يقول في صفات الله: كيف؟ ولا في أفعاله: لم؟ فلا توجه كلمة: (كيف) للصفات، ولا (لم) للأفعال؛ لأنه حكيم يفعل ما يشاء، ولهذا لما وجه سؤال هذا الشخص معترض، قال: ما معنى هذا الحديث؟ يعني كأنه يعترض غضب عليه واستشاط غضباً يزيد بن هارون، وقال: ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى مثل ما فعل به إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه؛ فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا -يعني: لم تجادلوا -سلمتم، وإلا تفعلوا هلكتم.
قال: [وقصة صبيغ الذي قال يزيد بن هارون للسائل: ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى مثل ما فعل به: هي ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: أن صبيغاًً التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:١]، قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلته، قال: فأخبرني عن: {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:٢] قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:٤] قال: الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:٣] قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة سوط، ثم جعله في بيت حتى إذا برئ دعا به ثم ضربه مائة سوط أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئاً، فكتب إلى عمر يخبره، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين مجالسة الناس].
عمر رضي الله عنه ضرب صبيغ؛ لأنه فهم من سؤالاته أنه يريد التعنت والعناد والاعتراض، فلهذا ضربه مائة سوط، ثم جعله في بيته، فلما أحس أنه برأ من الضرب ضربه مائة أخرى، ثم سفره من المدينة إلى الكوفة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك كلما جاء بحلقة طردوه، وإذا جاء إلى حلقة أخرى لا يعرفونه كلم أهل الحلقة الأخرى، قالوا: عزمة أمير المؤمنين عليه ألا تكلموه، فلا يكلمونه حتى تاب وجاء إلى أبي موسى وحلف بالأيمان المغلظة أنه ما يجد في نفسه ما كان يجد، ذهبت الشكوك والشبه التي في نفسه.
فكتب أبو موسى إلى أمير المؤمنين يستأذنه في أن يتركه ويخلي بينه وبين الناس ثم كتب عمر إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين الناس، فجعل الناس يكلمونه.
قال: [وروى حماد بن زيد عن قطن بن كعب: سمعت رجلاً من بني عجل يقال له: فلان - خالد بن زرعة - يحدث عن أبيه قال].
في النسخة الأخرى: خلته ابن زرعة.
[خالد بن زرعة يحدث عن أبيه قال: رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلق، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين].
عزمة أمير، يعني: تلزيم أمير المؤمنين، يعني: يلزم عليكم أن لا تكلمونه، فكلما جاء حلقة لا يعرفونه أخبرهم أهل الحلقة الأخرى وقالوا: عزم عليكم ألا تكلمونه حتى يتوب.
قال: [وروى حماد بن زيد أيضاً عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار: أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ، قدم المدينة فكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل].
العراجين جمع عرجون، وهو عرق النخلة إذا يبس واعوج كما قال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:٣٩].
قال: [فلما دخل عليه جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي].
يعني: يكفي الضرب، فقد ذهب ما في رأسي من الشبه والشكوك.
ونحن الآن بحاجة إلى مثل هذا، الآن صبيغ له أمثال كثيرون، في هذا الزمن نحن بحاجة إلى أن نفعل بهم مثلما فعل بـ صبيغ، هؤلاء الذين يشبهون ويلبسون، ويكتبون في الصحف والمجلات، ويكتبون الشبه، ويعترضون على الأحاديث والنصوص وأهل العلم بحاجة إلى أن نفعل بهم مثل ما فعل بـ صبيغ، ولو يفعل بهم ما فعل به لتأدب الناس، ولم يتكلم الرويبضة ولما أفتى.
حتى صار أهل الصحف والمجلات يفتون وهم ليسوا من أهل الفتوى يفتي: هذا يجوز وهذا لا يجوز، يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، وليس هناك دليل، وصار الكل يفتي الآن، ولو فعل بهم مثل ما فعل بـ صبيغ لتأدبوا ولما اعترضوا بالشبه والاعتراضات على النصوص وعلى أهل العلم؛ ولهذا يزيد بن هارون لما اعترض عليه الرجل، قال: ما أشبهك بـ صبيغ، وأحوجك إلى فعل مثل ما فعل به، يعني: هذا رجل اعترض على حديث الرؤية، قال: أنت بحاجة إلى أن تضرب حتى يزول ما في رأسك من الشبه والاعتراض على النصوص.