[أقوال أئمة أهل السنة في القرآن]
ذكر المؤلف رحمه الله سنده عن شيخه الحاكم، والحاكم يروي عن حسان بن محمد، وحسان بن محمد يروي عن الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح يقول: (القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه).
إذاً: الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كفر من قال: القرآن مخلوق، يقول: كافر لا تقبل شهادته؛ لأنه لا تقبل شهادة الكافر على المسلم، ولا يعاد إن مرض؛ لأنه ليس من المسلمين، ولا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وروي عنه أنه قال: من لم يقل بأن الله مستوٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن عن خلقه، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مزبلة حتى لا يتأذى به أهل الإسلام ولا أهل الذمة؛ لأن كفره أشد من كفر، نسأل الله السلامة والعافية.
والمؤلف رحمه الله قصده من هذا: الرد على من أنكر أن يكون كلام الله في المصاحف، فالأشاعرة يقولون: كلام الله هو القائم بنفسه، أما المصاحف فلا يوجد فيها كلام الله، هذا مع أنهم أقرب الطوائف، حتى إن بعضهم غلا تجده يدوس المصحف بقدميه، فإذا قيل له في ذلك؟ قال: لا يوجد فيه كلام الله، كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف عبارة عن كلام الله، والعياذ بالله.
فالمؤلف رحمه الله يرد على هؤلاء، ويبين بطلان مذهبهم، وأنه كفر وغلو، والقرآن كلام الله مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مكتوب بالألسن.
قال المصنف رحمه الله: [فأما اللفظ بالقرآن؛ فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق -يريد به القرآن- فقد قال بخلق القرآن.
وذكر ابن مهدي الطبري في كتابه الاعتقاد الذي صنفه لأهل هذه البلاد: أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وأن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو الكلام الذي تكلم الله عز وجل به، ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق، أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال، كافر بالله العظيم.
وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه؛ فإنه اتبع السلف من أصحاب الحديث في ما ذكره مع تبحره في علم الكلام، وتصانيفه الكثيرة فيه، وتقدمه وتبرزه عند أهله].
يقول المؤلف رحمه الله: إن مسألة اللفظ في القرآن حدثت ولم تكن معروفة عند السلف، وهو أن بعضهم تكلم، وقال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأنكر عليه العلماء وأهل الحديث، وقالوا: إن هذا الكلام ليس معروفاً عند أهل السلف وأصحاب الحديث.
ولهذا نقل المؤلف رحمه الله عن الشيخ أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني أنه ذكر في المسألة التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن، وهذه المسألة حصل فيها فتنة في بين المحدثين، حتى أن البخاري رحمه الله رمي بمسألة اللفظ، وهجره بعض أهل الحديث، وقالوا: إنه يقول بمسألة اللفظ، وهي مسألة محدثة، وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق، يقول: هذا باطل، هذا الكلام ليس معروفاً عند السلف، القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ لأن هذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح، والبخاري رحمه الله ذكر في صحيحه في كتاب التوحيد أن الإنسان مخلوق في أقواله وأفعاله، وأما كلام الله فهو منزل غير مخلوق.
فالذي يقول: إن لفظي بالقرآن مخلوق.
قال قولاً مبتدعاً لم يقله السلف، ولهذا قال كثير من السلف كما نقل المؤلف رحمه الله عن أبي بكر الإسماعيلي أنه قال: (من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن)، أنكر هذه اللفظة، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، أما الإنسان فهو مخلوق في أقواله وأفعاله، لكن لا تخصص القرآن.
وكذلك ذكر عن ابن مهدي في كتاب الاعتقاد: أن مذهب أهل السنة القول بأن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وبين كما سبق: أن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو كلام الله الذي تكلم به عز وجل.
قوله: (ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق؛ فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم)؛ لأنه ابتدع قولاً لم يقله السلف، والمؤلف رحمه الله يقول: إنما نقلت هذا الكلام عن ابن مهدي؛ لأن ابن مهدي وافق السلف في هذه المسألة، وإن كان قد تعمق في علم الكلام وتبحر فيه، وله تصانيف في الكلام، إلا أنه لما وافق أهل السنة نقلت كلامه؛ لأبين للناس أن بعض أهل الكلام وافق أهل السنة في هذه المسألة لظهور الحق فيها.
قال المصنف رحمه الله: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي: سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم بنيسابور عن اللفظ بالقرآن، فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق.
وذكر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتابه الاعتقاد الذي صنفه في هذه المسألة، وقال: أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأول؛ أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: اللفظية جهمية، قال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ} [التوبة:٦] ممن يسمع؟ قال: ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه رضي الله عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق.
فهو مبتدع.
قال محمد بن جرير: ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه.
هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه].
المؤلف رحمه الله نقل بسنده عن الإمام الحافظ إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الإمام المحدث المشهور قوله في مسألة اللفظ بالقرآن، فقال: (لا ينبغي أن يناظر في هذا)، يعني: لا ينبغي أن يتكلم إنسان باللفظ، ويقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
ثم نقل عن الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير المعروف في كتاب سماه الاعتقاد صنف في هذه المسألة، فقال الإمام ابن جرير الطبري: (أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن)، هل نقول: ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو غير مخلوقة؟ يقول: هذه المسألة ما تكلم فيها أحد، ليس فيها أثر نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأولى، وهو الإمام أحمد رحمه الله.
هل يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو يقال: غير مخلوق؟ يقول الإمام ابن جرير: ما وجدنا فيها أثراً عن الصحابة، ولا عن التابعين إلا أننا وجدنا من يتبع كلامه، وفي كلامه الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، وهو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، ثم روى بسنده عن أبي إسماعيل الترمذي أنه قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية، واللفظية هم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق.
قال الله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] يقول الإمام أحمد من يسمع؟ الإمام أحمد استدل على أن اللفظية جهمية بالآية: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦]، قال الإمام أحمد ممن يسمع؟ أليس يسمع كلام الله؟ ثم قال أيضاً: سمعت جماعة من أصحابنا يذكرون عن الإمام أحمد أنه قال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق.
فهو مبتدع.
هذه العبارة مشهورة عن الإمام أحمد: فمن قال: غير مخلوق مبتدع؛ لأنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الكلمة وذكرها ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة وأطال وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأنه قد يطلق اللفظ على الملفوظ، والملفوظ هو كلام الله، فيكون هذا قول الجهمية، وكذلك من قال: غير مخلوق؛ لأنه قد يطلق الملفوظ على اللفظ أيضاً، فيكون هذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فيكون مبتدعاً في هذه المقالة؛ ولأن اللفظ يطلق على الشيء الملفوظ وهو الشيء الساقط.
فإذاً: الإمام أحمد سد الباب، ولا يوجد روايات بعده، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا تقل: غير مخلوق، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع.
إذاً قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، واترك مسألة اللفظ لا نفياً وإثباتاً، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.
يقول محمد بن جرير الطبري رحمه الله: (لا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله)، أي: ليس هناك لنا قول يجوز أن نقوله ونعتمده إلا قول الإمام أحمد، ونحن نقول مثلما يقول الإمام أحمد لا نتكلم في اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً،