[الفرق بين أهل السنة وأهل البدع في باب الصفات]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدع: أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً ولم يقبلوه، أو للظاهر ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله، وإبطال عقولهم وآرائهم فيه، ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله، إذ هو كان أعرف بالرب جل جلاله من غيره، ولم يقل فيه إلا حقاً وصدقاً ووحياً، قال الله عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]].
يقول الإمام أبو عثمان رحمه الله: الفرق بين أهل السنة وبين أهل البدعة أن أهل البدعة إذا سمعوا خبراً في صفة الرب ردوا الخبر أو تأولوه بتأويل باطل، أما أهل السنة فإنهم يقبلون الحديث، ويقبلون ما جاء فيه من الأخبار، ويقولون: آمنا بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله.
فالعلامة الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، أن أهل السنة يقبلون الأحاديث ويؤمنون بما دلت عليه، وأهل البدع يردون الخبر إما أن يقولوا: هذا خبر آحاد ما نقبله، أو يتأولونه بتأويل باطل، هذا الفرق بينهما.
وأهل السنة يقبلون الحديث في العقائد والأعمال والأخلاق وفي كل شيء إذا صح سنده، وعدلت رواته، ولم يكن شاذاً ولا معللاً.
أما أهل البدع فهم بين أمرين: إما أن يردوه من الأساس، ويقولون: هذا خبر آحاد لا يحتج به، وإما أن يتأولوه بتأويل فاسد، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله)، وأما أهل السنة والجماعة فهم يعتقدون أن ما قاله الرسول فهو حق؛ لأن الرسول أعرف بالرب جل جلاله من غيره، فقد قال الله تعالى عن نبيه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الزهري رحمه الله إمام الأئمة وغيره من علماء الأمة رضي الله عنهم: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم.
] هذا القول قاعدة عند أهل السنة يقولون: على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، لا نعترض، فالله تعالى بين لنا وأخبرنا، والرسول صلى الله عليه وسلم بلغنا، ونحن نسلم ونقبل أمر الله وأمر رسوله، وخبر الله وخبر رسوله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى يونس بن عبد الصمد بن معقل عن أبيه أن الجعد بن درهم قدم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى فقال: ويلك يا جعد بعض المسألة! إني لأظنك من الهالكين، يا جعد! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدان وعيناً ووجهاً لما قلنا بذلك فاتق الله، ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب].
وهذا الأثر عن وهب بن منبه أن الجعد بن درهم - وهو أول من تكلم في نفي الصفات - سأله عن الصفات، فقال له وهب: ويلك يا جعد بعض المسألة! إني لأظنك من الهالكين، يا جعد! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلت بذلك، ما أثبت إلا ما أثبته الله في كتابه ورسوله فاتق الله، ثم لم يلبث الجعد أن قتل وصلب كما سيذكر المؤلف في القصة التي بعدها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخطب خالد بن عبد الله القسري رحمه الله يوم الأضحى بالبصرة، فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، بارك الله لكم في ضحاياكم، فإني مضح اليوم بـ الجعد بن درهم، فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً، ونزل عن المنبر فذبحه بيده، وأمر بصلبه].
وهذه القصة فيها قتل الجعد بن درهم وهو أول من ابتدع القول بنفي الصفات وأول من حُفظ عنه في الإسلام مقالة التعطيل، وكان الذي تكلم به في صفتين: أنكر صفة التكليم وصفة الخلة، أنكر أن يكون الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأن يكون كلم موسى تكليماً، وهاتان الصفتان ترجع إليهما جميع الصفات.
لأن إنكاره للكلام إنكار للشرائع والنبوات والكتب المنزلة، والله تكلم، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب بالكلام، وكذلك أيضاً أنكر الخلة وهي كمال المحبة، وقطع العلاقة بين الله وبين خلقه، يقول: المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين الخالق والمخلوق، ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق، وأي مناسبة أعظم من رب وعبد؟! الله تعالى هو الذي ربى خلقه، وأوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب، والعباد يعبدون ربهم ويتألهونه، ويتضرعون إليه، فهذه أعظم صلة.
فلما أنكر هذه الصفات أفتى العلماء في زمانه من التابعين بقتله، وكان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق فأفتاه العلماء من التابعين بقتله، فأمر به فقيد ووثق بالأغلال، وكان ذلك قبيل عيد الإضحى، وكان خالد بن عبد الله القسري هو الذي يصلي بالناس - على عادة الأمراء - الجمعة والعيد، فصلى بالناس يوم عيد الإضحى، وأتي بـ الجعد بن درهم مقيداً موثقاً، وجعل في أصل المنبر، فصلى خالد القسري بالناس العيد وخطب خطبة العيد، ثم قال في آخر الخطبة: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً.
ثم نزل وأخذ السكين وذبحه في المصلى أمام الناس، وشكره العلماء وأثنوا عليه، ومن ذلك ابن القيم رحمه الله في قصيدته الشافية أثنى عليه وقال: ولذا ضحى بـ جعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذ قال ليس إبراهيم خليله كلا ولا موسى الكليم الدان شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان ولا شك أن هذه الضحية أعظم أجراً من الضحايا الأخرى؛ لأن فيها قطع لدابر الفتنة والشر والفساد، وثوابها أعظم من ثواب الأضحية، وإن كانت الأضحية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قتل هذا الرجل فيه قطع لدابر الفتنة، لكن مع الأسف أن هذا الرجل قبل أن يقتل اتصل به الجهم بن صفوان، وأخذ عنه عقيدته في الصفات ثم نشرها، اتصل بالمشركين والصابئين واليهود ونشر عقيدة نفي الصفات؛ فنسبت إليه العقيدة فقيل: عقيدة الجهمية.