[عقيدة أصحاب الحديث في البعث وأهوال القيامة]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه به من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك في ذلك اليوم الهائل، من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل، والإجابة عن المسائل، إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط والميزان، ونشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر وغيرها].
البعث في اللغة: الإثارة، وشرعاً: بعث الله الأجساد وإعادة الأرواح إليها للحساب والجزاء.
قال المؤلف: ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، والإيمان بالبعث أصل من أصول الدين، وأصل من أصول الإيمان، وركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا به، ومن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم أن يقسم على البعث والساعة وقيام الساعة في ثلاثة مواضع من كتابه، الموضع الأول: قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:٧] أمر نبيه أن يقسم، وأثبت الله في هذه الآية أن من أنكر البعث كفر: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:٧] فمن أنكر البعث فهو كافر بنص القرآن.
والموضع الثاني: قال الله تعالى في سورة يونس: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس:٥٣] يعني: البعث بعد الموت: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:٥٣] قل: يا محمد: (إي وربي) أمره أن يحلف على البعث.
والموضع الثالث في سورة سبأ: قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:٣].
فالبعث بعد الموت يعني: الإيمان بأن الله يبعث الأجساد، هذا البدن إذا مات يبلى ويستحيل، ويكون تراباً إلا أجساد الأنبياء؛ لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وكذلك الشهداء يوجد بعضهم يبقى جسده مدة طويلة، وهل يبقى أو لا يبقى؟ كأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل كلما كان بقاء الجسد أطول، لكن الأنبياء هم الذين حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم وأما بقية الناس فإن الجسد يكون تراباً ولا يبقى منه إلا عظم صغير، وهو عجم الذنب آخر فقرة في العمود الفقري، وهو العصعص لا تأكله الأرض، ولا يبلى، منه خلق ابن آدم ومنه يركب كما في الحديث، فإذا كان في آخر الزمان أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة بعث الموت، فيموت الناس ثم يبقى الناس أربعون، فينزل الله مطراً أبيض فتنبت منه أجساد الناس، وينشئهم الله خلقاً جديداً، وتعاد الذرات التي في السحاب خلقاً جديداً، فالله عالم بالذرات التي في السحاب: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٩] وكما قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:٤].
فيعيد الله الذرات التي في السحابة وينشئ الله الناس نشأة جديدة، أي: تنشئة الصفات، وأما الذوات فهي هي الذوات، لكن الصفات تختلف، فإذا تكامل خلقهم ونبتوا أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث فتطايرت الأرواح إلى أجسادها، ودخلت كل روح في جسدها، فقام الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، ووقفوا بين يدي الله الجبار.
بعث الأجساد هذا هو الذي أنكره الكفرة والفلافسة، قالوا: البعث للروح، وهذا كفر وضلال.
من لم يؤمن بأن الله يبعث الجسد فهو كافر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله، يعني: ويؤمنون بكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله من أهوال ذلك اليوم الحق، من الأهوال التي تكون فيه ووقوف الناس حفاة عراة غرلاً، حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، وتعود إلى الإنسان القطعة التي قطعت منه وهو صغير من ذكره، فيكون غير مختون، ويقفون هكذا شاخصة أبصارهم إلى السماء، وأول من يكسى في موقف القيامة هو إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهذه منقبة لإبراهيم الخليل.
فيجب على المؤمن أن يؤمن بالوقوف بين يدي الله للحساب والشفاعة والميزان والصراط والحوض والجنة والنار، كل هذا يجب على المسلم أن يؤمن به، ولهذا قال المؤلف: وبكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هناك في ذلك اليوم الهائل، وهو {يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:٩ - ١٠] من أخذ الكتب بالأيمان، كل واحد يعطى صحيفته إما بيمينه أو بشماله، فالمؤمن يعطى صحيفته بيده اليمنى، فإذا سعى إليها أخذها يستبشر ويقول لكل من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:١٩ - ٢٢].
وأما الكافر والعياذ بالله فإنه يعطى كتابه بيده الشمال ملوية وراء ظهره، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:١٠ - ١١].
فلابد من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل والإجابة عن المسائل: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به).
فلابد من الإيمان بما يكون هناك في ذلك اليوم الهائل من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل والإجابة عن المسائل.
قال: إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط الذي ينصب على متن جهنم، ويمر الناس فيه على قدر أعمالهم، فأول زمرة تمر على الصراط كالبرق، ثم الزمرة الثانية كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاود الخيل، ثم الرجل يركض ركضاً، ثم الرجل يمش مشياً، ثم الرجل يزحف زحفاً، وهناك كلاليب على الصراط تخطف من أمرت بخطفه وتلقيه في النار على حسب الأعمال.
ولا يتكلم إلا الرسل، ودعاء الرسل في ذلك الموقف: اللهم سلم سلم، وكذلك أيضاً الإيمان بالميزان، وأنه توزن فيه أعمال العباد، وهو ميزان حسي له كفتان ولسان، كفتاه أعظم من أطباق السموات والأرض يوزن فيه الأشخاص والأعمال، وتثقل الموازين وتخف على حسب الأعمال، فالمؤمن يثقل ميزانه والعاصي يخف ميزانه على حسب الأعمال، نسأل الله السلامة والعافية، فمن ثقلت موازينه نجا، ومن خفت موازينه هلك، كما أخبر الله في كتابه العظيم: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:٦ - ٩]، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:١٠٢]، {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:٩].
وكذلك الإيمان بنشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر، فصحف الأعمال تنشر، ويعطى كل واحد صحيفة عمله.
كذلك الإيمان بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة، ويصب فيه ميزابان من نهر الكوثر، كل هذا لابد للمسلم أن يؤمن به، كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر، وهو يشمل الإيمان بالبعث بعد الموت والإيمان ببعث الأجساد، وبالوقوف بين يدي الله، وتطاير الصحف، وبالميزان، وبالصراط، وبالحوض، وبالجنة، وبالنار.
وكذلك ما قبل البعث حينما يموت الإنسان، فلابد من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وفتنة السؤال، وضمة القبر، وكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، والمؤمن يوسع له في قبره مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
والمؤمن يأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، يؤنسه وهو عمله، والفاجر يأتيه رجل قبيح الوجه، منتن الريح، قبيح الثياب، فلا يزال يوحشه وهو عمله السيئ، نسأل الله السلامة والعافية.
كل هذا لابد من الإيمان به، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع السلامة والعافية، وثبت الله الجميع على الهدى.