[قول الإمام مالك في إثبات استواء الله على عرشه]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأمر به أن يخرج من مجلسه].
هذه المقالة ثابتة عن الإمام مالك رحمه الله نقلها المؤلف رحمه الله بالسند، أن مالكاً رحمه الله جاءه سائل وهو في مجلس التحديث يحدث الناس في المسجد، فقال: يا مالك! (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استوى؟ فأطرق مالك كما جاء في رواية أخرى وسكت ملياً، ثم علته الرحضاء (العرق) ثم رفع رأسه، وقال: أين السائل؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء ثم أمر به أن يخرج من مجلسه.
المؤلف ذكر القول بهذا اللفظ: كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، ومعناه: أنه معلوم باللغة العربية، وفي اللفظ الآخر أنه قال: الاستواء معلوم، أي: معلوم معناه.
(والكيف غير معقول) وفي اللفظ الآخر قال: (والكيف مجهول) وغير معقول يساوي مجهول، وغير مجهول يساوي معلوم، فقوله: (الاستواء غير مجهول) أي: معلوم، والكيف غير معقول، أي: مجهول.
(والإيمان به واجب) الإيمان بالاستواء واجب لأنه ثبت في القرآن وفي السنة.
(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن الكيفية بدعة.
ثم قال: (وما أراك إلا ضالاً) وفي اللفظ الآخر: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر به أن يخرج من مجلسه.
وهذا يقال في جميع الصفات، فلو سأل شخص وقال: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:٤٠]، كيف هذا العلم؟ يقال له: العلم معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:٥٨]، كيف السمع؟ يقال: السمع معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فهذه المقالة عن الإمام مالك رحمه الله تلقاها أهل العلم بالقبول والتصديق، واحتجوا بها، وصارت قاعدة عند أهل السنة في الصفات، أن كل صفة ثبتت للرب سبحانه وتعالى يقال فيها كما قال الإمام مالك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أبو محمد المخلدي العدل حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد الإسفراييني حدثنا أبو الحسين علي بن الحسن حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا مهدي بن جعفر بن ميمون الرملي عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله يعني يسأله عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، قال: فما رأيته وجد من شيء كوجده من مقالته، وعلاه الرحضاء وأطرق القوم فجعلوا ينظرون الأمر به فيه ثم سرِّي عن مالك رحمه الله فقال: الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً، ثم أمر به فأخرج].
وهذا صحيح ثابت عن مالك رحمه الله، وهذه رواية أخرى، والمؤلف رواه بعدة روايات، ففي هذه الرواية أن هذا الرجل جاء وسأل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ قال الراوي: (فما رأيته) - يعني: الإمام مالك - (وجد من شيء كوجده من مقالته) يعني: فما رأيته غضب من شيء أشد من غضبه ذلك، (وعلاه الرحضاء) يعني: صار يتصبب عرقاً، من ثقل هذه المقالة وشدتها على الإمام مالك رحمه الله، (وأطرق برأسه أيضاً) أي: سكت ولم يتكلم، (وأطرق القوم فجعلوا ينتظرون الأمر به فيه) أي: ينتظرون ماذا يقول الإمام مالك، وهو قد غضب وجعل يتصبب عرقاً وسكت، والرجل واقف ينتظر.
(ثم سرِّي عن مالك) يعني: انكشف وزال ما به، (فقال: الكيف غير معلوم) يعني: كيفية الاستواء غير معلومة، بل هي مجهولة، (والاستواء غير مجهول) بل هو معلوم معناه في اللغة العربية، وهو: الاستقرار والعلو، والصعود والارتفاع، وكيفية اتصاف الرب بالاستواء هذا غير معلوم، (والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) الإيمان بالصفة واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة.
ثم قال الإمام مالك: (وإني لأخاف أن تكون ضالاً) يعني: هذا الرجل الذي سأل عن الكيفية، وهذا سؤال باطل، لا ينبغي أن يسأل عن الكيفية، بل يجب عليه أن يؤمن بالاستواء، يقول: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله.
فقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، يجب على الإنسان أن يقول: آمنت بالله ورسوله، الله استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته، أما أن يسأل: كيف استوى؟ فهذا بدعة، لا تسأل عن الكيفية، فهي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله: (وإني أخاف أن تكون ضالاً).
(ثم أمر به فأخرج) طُرد من الحلقة ومن المسجد ومن المجلس بسبب بدعته وسؤاله سؤالاً مبتدعاً؛ حتى لا تسري بدعته إلى غيره.
فإذا كان الإمام مالك رحمه الله يعاقب الذي يسأل عن الكيفية فيطرد ويخرج من المسجد ويهجر، فكيف وقد صار الكل يتكلم بما يشاء في هذا الزمان، فصار المبتدعة يكتبون والمعتزلة يكتبون والأشاعرة يكتبون والضلال يكتبون، أين هم من الأئمة رحمهم الله؟ الأئمة في زمانهم لا يستطيع أحد أن يتكلم، ولا يستطيع أحد أن يكتب، فمن كتب يؤدب ويهجر ويحذر منه، وبذلك تموت البدع وتحيا السنن، أما في الأزمنة المتأخرة فإن أهل البدع قد أخرجوا رءوسهم، وصاروا يتكلمون ويكتبون وينشرون، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخبرنا به جدي أبو حامد أحمد بن إسماعيل عن جد والدي الشهيد أبو عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصابوني حدثنا محمد بن أحمد بن أبي عون النسوي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا مهدي بن جعفر الرملي حدثنا جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل لـ مالك بن أنس رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ قال: فما رأينا مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته، وذكر نحوه].
وهذا طريق ثابت عن الإمام مالك رحمه الله، ذكر المؤلف له عدة طرق، ولكن مدارها كلها على جعفر بن عبد الله، وفي هذا أنه قال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، كيف استوى؟ قال: (فما رأينا مالكاً وجد من شيء كوجده من مقالته).
يعني: غضب كغضبه من مقالته، ثم ذكر بنحو ما سبق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسئل أبو علي الحسين بن فضل البجلي عن الاستواء وقيل له: كيف استوى على عرشه؟ فقال رحمه الله: إنا لا نعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كشف لنا، وقد أعلمنا جل ذكره أنه استوى على عرشه، ولم يخبرنا كيف استوى].
في نسخة: أنا لا أعرف، وهذا محتمل، وهذا فيه أن أبا علي الحسين بن فضل البجلي سُئل عن الاستواء كما سئل الإمام مالك، وقيل له: كيف استوى على عرشه؟ فقال: (أنا لا أعرف من أنباء الغيب إلا مقدار ما كشف لنا)، ويحتمل: (إنا لا نعرف)، يعني: إنا معشر العلماء لا نعرف الغيب.
والمعنى أن هذا من علم الغيب، ولا نعلم من علم الغيب إلا ما كشف لنا، والله تعالى لم يخبرنا كيف استوى، ولم يكشف لنا كيف استوى، فنقف، فلا نعلم كيفية الاستواء.