[التوقف ووكل الأمر لله حين الاختلاف]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس المعقلي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي حدثني أبي حدثني عبد الرحمن الضبي عن القاسم بن عروة عن محمد بن كعب القرظي قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فجعلت أنظر إليه نظراً شديداً، فقال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي وأنا بالمدينة، فقلت: لتعجبي، فقال: ومم تتعجب؟ قال: قلت: لما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفى من شعرك، قال: كيف لو رأيتني بعد ثلاثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وسال منخراي في فمي صديداً، كنت لي أشد نكرة.
حدثني حديثاً كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل شيء شرفاً، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة، لا تصلوا خلف نائم ولا محدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدر بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه، فإنما ينظر في النار.
ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الذي يجلد عبده، ويمنع رفده، وينزل وحده.
أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي يبغض الناس ويبغضونه.
أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يقيل عثرة، ولا يقبل معذرة، ولا يغفر ذنباً.
أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره.
من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله.
إن عيسى عليه الصلاة والسلام قام في قومه فقال: يا بني إسرائيل! لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالماً فيبطل فضلكم عند ربكم، الأمر ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلفتم فيه فكلوه لله عز وجل)].
وهذا الأثر الطويل أتى به المؤلف رحمه الله، والشاهد منه قوله: (فكلوه لله عز وجل)، أي: أن الشيء الذي لا يعلم فالإنسان يكله إلى الله عز وجل ولا يتكلم به، وهذا الأثر رواه المؤلف رحمه الله عن محمد بن كعب القرظي قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز الخليفة المشهور الخليفة الراشد، من خلفاء بني أمية رضي الله عنه وأرضاه.
يقول: فجعلت أنظر إليه نظراً شديداً ينظر ويتأمل في وجهه وفي يديه فأنكر ذلك عليه عمر، فقال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي وأنا بالمدينة؛ لأنه كان أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك، ثم تولى الخلافة.
وكان محمد بن كعب القرظي يعرف عمر بن عبد العزيز ويأتيه لما كان أميراً على المدينة، ولما صار هو أمير المؤمنين جاء إليه محمد بن كعب القرظي وجعل ينظر إليه ويتأمله، فأنكر ذلك عليه، قال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي وأنا في المدينة لما كنت أميراً والآن تنظر إلي لما صرت خليفة، ما السبب؟ قال: قلت: لتعجبي أنظر إليك، قال: ومم تعجب؟ قال: قلت: ما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفي من شعرك، يعني: تحول حال لونك ونحل جسمك: في الأول كنت أسمن من هذا والآن ضعف حالك، ونفي من شعرك: يعني: شعرك متشعث، بينما وأنت في المدينة كان شعرك متنعماً.
وذلك أن الخليفة عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة صار هو يضرب به المثل في العدل، وصار عنده خوف من الله عز وجل، وخاف من توليه لأمور المسلمين حتى تغير جسمه ونحل، وصار لا يأكل ولا يشرب إلا القليل واهتم بأمر المسلمين حتى تغير جسمه ونحل، ولم يعد يجد الوقت لكي يغسل شعره ويلبس الثياب جميلة.
فقال له: كيف لو رأيتني بعد ثلاثة في قبري، أي: لو رأيتني بعد الموت وأنا في قبري بعد ثلاثة أيام تكون أشد! انظر إلى زهده رضي الله عنه.
وقد سالت حدقتاي على وجنتي: أي: العينين خرجت وصارت على الخدين، وسال منخراي في فمي صديداً.
الخليفة يقول هذا لـ محمد بن كعب القرظي قال: كنت لي أشد نكرة من قبل، يقول: أنت الآن تستنكر أن حال الجسم متغير وشعري متشعث، ولوني متغير، لكن لو رأيتني بعد الموت تكون أشد استنكاراً فستجد عيناي خرجت وصارت على وجهي، وتجد منخراي في فمي صديداً.
ثم قال له عمر بن عبد العزيز حدثني حديثاً كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له محمد بن كعب قلت: حدثني عبد الله بن عباس يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لكل شيء شرف، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة)، هذه اللفظة أخرجها الطبراني، وقال: بإسناد حسن، وقال: (إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة) ثم قال: (لا تصلوا خلف نائم ولا محدث)، هذه الجملة غير ثابتة وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة أمام القبلة، وكون الإنسان يصلي وأمامه نائم أو محدث لا حرج في هذا، ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأمامه عائشة نائمة.
وقوله: (واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم) فيه الأمر بقتل الأسودين، وهو ثابت في حديث النبي، قال: (اقتلوا الأسودين الحية والعقرب ولو في الصلاة)، وهذا لا بأس به، والحركة فيه مغتفرة كونك تقتل وتضرب، إلا إذا استدعى الحال أن تدور وتستدبر القبلة واشتد الأمر فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك يقطع الصلاة ثم يستأنف الصلاة من جديد، لكن ما دام مستقبلاً القبلة فله أن يقتل الحية والعقرب ولا يؤثر هذا في الصلاة.
قال: (ولا تستروا الجدر بالثياب) هذا فيه النهي عن ستر الجدر، ورد في صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين).
وذكر النووي في صحيح مسلم قال: يستدل به على أنه يمنع من ستر الحيطان، وتمديد البيوت والثياب وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم، وقد زار أبو أيوب ابن عمر رضي الله عنه ورأى في البيت ستراً على الجدار، فأنكر عليه قال: جعلتم بيوتكم كالكعبة تسترونها فقال ابن عمر: غلبننا النساء، فقال: من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليه، إذا كنت يغلبك النساء فكيف بغيرك، والله لا أطعم لك طعاماً، فرجع أبو أيوب وأنكر على ابن عمر أنه ستر الجدار.
والنووي يقول: إن هذا كراهة تنزيه؛ لأن هذا من الإسراف، والجدر لا حاجة إليها، أما الآن فقد تغير الوضع وصار هناك الديكورات وما أشبه ذلك، وهو أشد من الستر، فالله المستعان.
قال: (ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه، فإنما ينظر في النار)، هذه اللفظة ذكر المفسر أنها ضعيفة.
قال: (ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يجلد عبده، ويمنع رفده، وينزل وحده)، رفده يعني: العطاء والصلة، والذي يجلد عبده يعني: العبد المملوك يجلده بغير حق.
ويمنع رفده: يعني يمنع عنه الصلة والعطاء، وينزل وحده: وهذا يحتمل أنه إذا نزل منزلاً فإنه لا ينزل معه أحد كبراً وبطراً أو شحاً وبخلاً.
قال: (أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي يبغض الناس ويبغضونه، ثم قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يقيل عثرة، ولا يقبل معذرة) لا يقيل عثرة يعني: لا يصفح ولا يعفو، ولا يقيل صاحب العثرة إذا اعتذر إليه، ولا يقبل عذره، ولا يغفر ذنبه.
ثم قال: (أفلا أنبئكم بشر من ذلكم؟ الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره)، شره إلى الناس صاعد وخيره قليل.
(من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله)؛ لأن المتوكل على الله، والمفوض أمره إلى الله بعد فعل الأسباب من أقوى الناس.
(ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره) يعني: يثق بالله؛ لأن الله تعالى هو الذي بيده الأمر والنهي وهو الذي بيده الرزق.
(ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله)، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣].
ثم قال: (إن عيسى عليه الصلاة والسلام قام في قوم فقال: يا بني إسرائيل! لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها)؛ لأنكم إذا كلمتم الجهال تأولوها على غير تأويلها: (ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم) يعني: تكلموا بالحكمة عند أهلها، وإذا لم تتكلموا بها عند أهلها ظلمتموهم، وإذا تكلمتم بالحكمة عند الجهال ظلمتم الحكمة.
(ولا تظلموا) يعني: لا تظلموا غيركم، ولا تكافئوا ظالماً بظلمه فيبطل فضلكم عند ربكم، فلا تكافئوه بظلمه وذلك بأن تعفوا وتصفحوا.
ثم قال: الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبه، وأمر اختلفتم فيه فكلوه لله.
والمعنى أن الأمور ثلاثة: أمر تبين لك أنه حق، وأنه رشد وصواب فعليك أن تعمل به، وأمر تبين لك أنه غي وضلال فعليك أن تجتنبه، وأمر مشتبه اختلفتم فيه، فتوقفوا فيه وكلوه إلى الله عز وجل، وهذا هو الشاهد: (وأمر اختلفتم فيه فكلوه لله عز وجل).
يقول المزي في تحفة الأشراف: هذا حديث مشهور من رواية أبي المقدام هشام بن زياد عن محمد بن كعب رواه الناس عنه مطولاً ومختصراً، وأخرجه أيضاً ابن سعد في الطبقات من ثلاث طرق مختلفة.
هذه الجمل بعضها صحيح وبعضها ضعيف، وبعضها له شواهد.