[لا يكفر المؤمن بكل ذنب]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار].
هذا فيه بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب الذنوب وأصحاب الكبائر من المسلمين، فقد بين المؤلف رحمه الله أن عقيدة أهل السنة والجماعة في الموحدين الذين يرتكبون الكبائر ويموتون عليها من غير توبة أنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بتوحيدهم وإسلامهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه وتعالى عذبهم بذنوبهم على قدر جرائمهم ثم يخرجون منها إلى الجنة كما قال الله عز وجل في كتابه المبين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وإذا عذب العاصي في النار فإنه لا بد أن يخرج منها، إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون، موحدون، مصلون، فلا تأكل النار أثر السجود فيعذبهم الله مدة ثم يخرجهم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، وكذلك بقية الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والصالحون يشفعون، والشهداء يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (شفعت الملائكة وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) أي: زيادة على التوحيد والإيمان، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة يخلد في النار وهذا مذهب باطل أنكره عليهم أهل السنة وبدعوهم وضللوهم؛ لأن النصوص في إخراج العصاة من النار متواترة، ومع ذلك أنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فالواجب على المسلم أن يعتني بهذا الأمر، وأن يعتقد ما يعتقده أهل السنة والجماعة، فالخوارج عندهم أن الزاني يكفر ويخلد في النار، ومن شرب الخمر كفر وخلد في النار، وكذلك المعتزلة يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر لكن يخلدونه في النار كالخوارج، ومن تعامل بالربا عند الخوارج والمعتزلة كفر وخلد في النار فهو عندهم كالكافر سواء بسواء نعوذ بالله، ومن عق والديه كفر وخلد في النار وهذا مذهب باطل، عند أهل السنة والجماعة، وضعيف الإيمان لا يكفر ولكن يكون ناقص الإيمان ولا يخلد في النار بل هو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ثم أخرجه، كما قال المؤلف رحمه الله هنا.
ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت أو كبائر فإنه لا يكفر بها، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، ومحل النزاع هو إذا خرج من الدنيا غير تائب منها، أما من فعل الكبيرة ثم تاب، تاب الله عليه بالاتفاق، فمن تاب قبل الموت من الشرك والذنوب تاب الله عليه، والله تعالى قد عرض التوبة على المثلثة النصارى الذين يقولون: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:٧٣] قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:٧٣ - ٧٤] فالتوبة تجب ما قبلها وليس هناك ذنب لا يغفر أبداً، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] يعني: لمن تاب، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين فمن تاب تاب الله عليه حتى عند الخوارج المعتزلة، لكن محل النزاع: من مات على كبيرة من غير توبة هذا هو محل النزاع، فأهل السنة يقولون: هو ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان، وتحت المشيئة قد يعفى عنه وقد يعذب، قد يعذب في قبره، وقد تصيبه شدائد وأهوال في موقف القيامة، وقد يعذب في النار.
أما الخوارج والمعتزلة فيقولون: هو كافر مخلد في النار نسأل الله السلامة والعافية.
ويجب على طالب العلم أن يعتني بهذا الأمر حتى لا يقع في معتقد أهل البدع.
وقول المؤلف رحمه الله: وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار وإن شاء عفا عنه، وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار والدليل على هذا هو الآية الشريفة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فهذه الآية في غير التائبين؛ لأن الله سبحانه وتعالى خص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدل على أنها ليست في التائبين، أما آية الزمر وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] فهي في التائبين فإن الله عمم وأطلق فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] يعني: لمن تاب، فمن تاب توبة نصوحاً بأن أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألا يعود إليه، ورد المظلمة إلى أهلها، وكان قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها، فإن الله تعالى يغفر ذنبه مهما كان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب وإن عذب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار، ومعنى ذلك: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس ومعنى قوله: لا يلقى في النار إلقاء الكفار أن الكافر يحرق بدنه كله كلما نضج جلده بدل جلداً غيره ليذوق العذاب كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده، ومعنى قوله: لا يبقى في النار بقاء الكفار.
أن الكافر يخلد فيها ولا يخرج منها أبداً، ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً، ومعنى قوله: ولا يشقى في النار شقاء الكفار: أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله ولا يرجون راحة بال].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة؛ لأنهم خلقوا لها وخلقت لهم فضلاً من الله ومنة].
هذا الكلام الذي نقله المؤلف رحمه الله عن شيخه سهل بن محمد رحمه الله يبين فيه الفرق بين المؤمن العاصي الذي يعذب بالنار والكافر، وقال: بينهما فروق ثلاثة: الفرق الأول: أن الكافر يؤتى به ويقذف في النار على أم رأسه ويدخل في سلسلة من النار {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٢].
أما المؤمن فيدخلها على رجليه مثل المجرم الذي يدخل السجن في الدنيا.
الفرق الثاني: أن الكافر تغمره النار من جميع الجهات وتحرق بدنه، أما المؤمن فلا تغمره من جميع الجهات، بل تلهبه النار على حسب أعماله، فقد تصل النار إلى ركبتيه، أو إلى كعبيه أو إلى حقويه على حسب المعاصي.
الأمر الثالث: أن الكافر ييأس من رحمة الله فليس له طمع بأن يخرج من النار بل هو يائس والعياذ بالله أبد الآباد، وأما المؤمن فإنه لا ييأس بل يرجو رحمة الله ويرجو الخروج من النار؛ لأن دخوله مؤقت؛ لأن المؤمن الموحد الأصل أنه من أهل الجنة فهو خلق للجنة لكن هذه المعاصي خبث لا بد أن يطهر منه، فمنهم من يطهر منها بعفو الله فإذا عفا الله عنها طهر منها، وإذا لم يعفو عنه فلا بد أن يطهر بالنار، مثل النجاسة التي تصيب الثوب والبدن لا بد من غسلها، فنجاسة المعاصي تغسل بالنار إذا لم يعف الله عنها حتى تزول، فإذا طهر صاحبها أخرج منها بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين.
وقول الله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] معنى التبديل: أي التجديد وليس معناه أنه يؤتى بجلود أخرى، وإنما معناه أنه كلما نضجت جدد من جديد حتى يستمر في العذاب نسأل الله السلامة والعافية، والكافر تلفح وجهه النار، أما المؤمن فلا تلفح وجهه النار، والمؤمن المصلي لا تأكل النار مواضع السجود منه، وهي: الجبهة، واليدين، والركبتين، وإنما تأكل بقية جسده، أما الكافر، فتلفحه النار من جميع الجهات نعوذ بالله.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)، وفي اللفظ الآخر: (كل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود).
ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار) أن الكافر يخلد فيها، ولا يخرج منها أبداً.
(ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين