للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وجوب الإيمان بالنصوص الشرعية ورد المتشابه منها إلى المحكم]

قوله: (ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف.

فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل) لكنه سبحانه لم يبين لنا كيفية ذلك، فننتهي إلى ما انتهى إليه النص، ونقف عنده ولا نتجاوزه إلى البحث عن الكيفية، ولهذا قال المؤلف: (فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه؛ إذ كنا قد أمرنا به في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:٧])، فبيّن سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأن منه آيات محكمات أخر متشابهات، والآيات المحكمات هي: الواضحات المعنى، والمحكم هو: الواضح المعنى، والمتشابه هو: الذي فيه إشكال عند بعض الناس، فالمتشابه نسبي يختلف باختلاف أفهام الناس، فالذين في قلوبهم زيغ وانحراف علامتهم: أنهم يتبعون المتشابه ويتركون المحكم.

وأما الراسخون في العلم فإنهم يعملون بالمحكم، ويؤمنون بالمتشابه، ويردون المتشابه إلى المحكم، فيفسرون المتشابه بالمحكم، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، يعني: سماهم في هذه الآية.

فعلامة أهل الزيغ أنهم يأخذون بالمتشابه، ويتركون المحكم، فيأتون للنص الذي فيه اشتباه ويلبسون به على الناس، ويتركون النصوص الكثيرة المحكمة.

فمثلاً نصوص الفوقية والعلو تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨]، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥]، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، في سبع آيات من القرآن، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:١٠]، والصعود من أسفل إلى أعلى، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

فأهل الزيغ يتركون هذه النصوص كلها، ويتعلقون بالمتشابه.

يقول الجهمي مثلاً: إن الله في كل مكان، وليس فوق العرش لقول الله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤]، هذه دليله على أن الله في كل مكان.

فنقول له: أنت من أهل الزيغ، تركت ثلاثة آلاف دليل واضحة صريحة وتأتي بنص مشتبه، تعلقت بالمتشابه وتركت المحكم، هذه علامة أهل البدع، أما أهل الحق الراسخون في العلم فيفسرون النص المتشابه بالنصوص المحكمة.

ونقول له: إن النصوص التي فيها أن الله فوق العرش وفوق المخلوقات محكمة واضحة لا لبس فيها، وأما هذا النص فإنا نرده إلى النصوص الأخرى، ونفسره بما يتناسب معها، فيكون معنى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:٨٤]، يعني: وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وذاته فوق العرش.

فهذه طريقة أهل الحق الراسخين في العلم، أي: أنهم يعملون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، ويفسرونه به، أما أهل الزيغ فيتركون النصوص المحكمة ويأخذون المتشابهة.

فمثلاً: النصوص التي فيها أن المرأة يجب عليها أن تتحجب عن الرجال الأجانب، نصوص محكمة، كثيرة واضحة، منها قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣]، أي: حجاب ساتر للمرأة، فيكون بينك وبينها باب أو جدار أو غطاء على وجهها، فلا بد من الحجاب، ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:٥٩]، وفي حديث عائشة: كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه.

وثبت في صحيح البخاري في قصة الإفك أن عائشة رضي الله عنها -لما ذهب الجيش وتركوها وظنوا أنها في الهودج- جلست في مكانها لعلهم يرجعون إليها، فجاءها صفوان بن معطل، وكان متأخراً خلف القوم، فرآها وعرفها قبل الحجاب، فجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أهل رسول الله! وكانت قد غلبتها عيناها، قالت: (فاستيقظت باسترجاع صفوان -أي: استيقظَت لما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمّرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب) هذا في صحيح البخاري، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله.

قولها: (فخمّرت وجهي بجلبابي) فيه دليل على وجوب الحجاب، وقولها: (وكان يعرفني قبل الحجاب)، فيه دليل على أن المرأة قبل الحجاب كانت تكشف وجهها.

هذه كلها يتركها أهل الزيغ ويقولون: المرأة لا يجب عليها ستر وجهها، ويستدلون بحديث المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس، فكان ينظر إليها، وتنظر إليه فصرف النبي وجه الفضل عنها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا دليل على أنها كاشفة الوجه؛ لأنه ينظر إليها وتنظر إليه.

نقول له: أتركت النصوص المحكمة وتتعلق بهذا النص المتشابه؟ أنت من أهل الزيغ؛ لأنك تركت النصوص، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:٥٣]، قول عائشة في الحديث المتقدم: و (خمرت وجهي بجلبابي).

هذا الحديث فيه اشتباه فنرده إلى النصوص المحكمة.

ونقول: لا يلزم أن تكون هذه المرأة كاشفة وجهها، ويكون معنى: (ينظر إليها وتنظر إليه) أي: ينظر إلى طولها أو قدمها أو ثيابها، فلا يلزم أن تكون كاشفة وجهها، بدليل النصوص الأخرى التي فيها الأمر بوجوب ستر الوجه وتغطيته.

هذا مثال لطريقة أهل الزيغ، وطريقة أهل الحق.

<<  <  ج: ص:  >  >>