[الشفاعة العظمى لأهل الموقف]
والشفاعة في يوم القيامة أنواع متعددة: منها الشفاعة العظمى التي تكون في موقف القيامة، ويتأخر عنها أولو العزم من الرسل، وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وهي مذكورة في قول الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، فالمقام المحمود: هي الشفاعة العظمى، وهي عامة للمؤمنين والكفار، لأهل الموقف جميعاً حتى يستريحوا من موقف القيامة، وذلك أن الناس إذا بعثهم الله من قبورهم حفاة عراة غرلاً وقفوا بين يديه للحساب، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها، ويقف الناس هذا الموقف العظيم {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] ويبلغ الناس من الشدة ما الله به عليم، ويلجمهم العرق على حسب الأعمال، منهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً على حسب الأعمال، فيموج الناس بعضهم من بعض، فيسرع الناس إلى الأنبياء، فيأتون آدم ويطلبون منه الشفاعة فيمتنع، ويقول: لست أهلاً لها، إني أكلت من الشجرة التي نهيت عنها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون إلى نوح فيسألوه أن يشفع لهم عند الله حتى يحاسبوا ويستريحوا من هذا الموقف، فيعتذر نوح عليه السلام، ويقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، وفي بعض الروايات يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن فيذهبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيطلبون منه الشفاعة، فيعتذر ويقول: إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، وهو يجادل بها عن دين الله: عندما كسر الأصنام، ووضع الفأس على الصنم، فلما سألوه من فعل ذلك؟ قال: هذا، وكذلك قال عن زوجته: إنها أختي، وتأول أنها أخته في الإسلام لما مر بملك مصر الظالم في ذلك الوقت، ولما نظر في النجوم وقال: إني سقيم يجادل به عن دين الله، ومع ذلك يعتذر فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فإنه كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى، فيقولون: يا موسى أنت كليم الرحمن، اصطفاك الله برسالته وبكلامه، اشفع لنا إلى ربك، فيعتذر موسى ويقول: لست أهلاً لها، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -وكان هذا قبل النبوة حينما قتل القبطي- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فإنه روح الله وكلمته فيذهبون إلى عيسى، فيعتذر عليه الصلاة والسلام ولا يذكر ذنباً، إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الشفاعة، فيقول: أنا لها، أنا لها عليه الصلاة والسلام، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه محامد لا يحسنها وهو في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الله عز وجل فيقول الله سبحانه وتعالى: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، هذا الإذن {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، لا أحد يستطيع أن يشفع عند الله إلا بعد الإذن حتى ولو كان وجيهاً عند الله، فمحمد عليه الصلاة والسلام أعظم الناس وجاهة عند الله ومع ذلك لا يشفع حتى يأتيه الإذن، فإذا جاء الإذن رفع رأسه، وسأل ربه الشفاعة، فيقول الرب عز وجل: أنا آت لأقضي بينكم، فيقضي الله تعالى بين الخلائق، ويفرغ من محاسبتهم جميعاً في وقت واحد، لا شيء يشغله عن شيء.
كما أنه يخلقهم في وقت واحد ويرزقهم ويعافيهم كذلك يحاسبهم في وقت واحد، بخلاف المخلوق الضعيف، فلو تكلم معك اثنان أو ثلاثة لما استطعت أن تكلمهم جميعاً في وقت واحد، لكن الرب سبحانه وتعالى يخاطبهم في وقت واحد، والخلائق كلهم يحاسبهم في وقت واحد، ويفرغ من حسابهم في مقدار منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة، فالقيلولة تدرك المؤمنين في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:٢٤].
هذه هي الشفاعة العظمى التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، فهذه ما أنكرها أحد، وهي شفاعة خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهناك شفاعة أخرى خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الشفاعة لأهل الجنة بإذنه لهم في دخولها، وهناك شفاعة ثالثة خاصة بعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه.
هذه الشفاعات خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.
وكذلك هناك شفاعة رابعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة، هذه الشفاعات الأربع ما أنكرها أحد، أقر بها أهل السنة وأهل البدعة، وهناك شفاعة أخرى أنكرها أهل البدع هي الشفاعة لمن استحق النار من العصاة ألا يدخلها، والشفاعة فيمن دخل النار من العصاة أن يخرج منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة ولا يدخلوا النار.
هذه الشفاعات أنكرها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم، فأنكر عليهم أهل السنة وضللوهم وبدعوهم، والنصوص التي فيها الشفاعة بإخراج العصاة الموحدين من النار بلغت حد التواتر؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات في كل مرة يحد الله له حداً ويشفعه الله فيمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي بعضها: (أدنى مثقال ذرة)، وفي بعضها: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من حبة من إيمان) وكذلك الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراد يشفعون، والصالحون يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته.
فهذه الشفاعة في إخراج العصاة من النار، أو من استحق دخول النار ألا يدخلها أنكرها أهل البدع، مع أنها متواترة، والأحاديث التي بلغت حد التواتر قليلة تقارب أربعة عشر حديثاً منها حديث الشفاعة، ومنها حديث الحوض، ومنها حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ومنها حديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها حديث الشفاعة، فأنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، يقولون: العاصي إذا زنا كفر وخلد في النار، إذا سرق يكفر ويخلد في النار، ولا يخرج منها أبد الآباد مثل الكفرة.
وهذا من أبطل الباطل، فإن النصوص في إخراج العصاة من الموحدين متواترة، والذي لا يخرج من النار هم الكفرة، أما المؤمن العاصي لو مات على التوحيد لكنه مات على كبائر من غير توبة فقد تواتر في الأخبار بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، مؤمنون موحدون مصلون، ولا تأكل النار من وجوههم مواضع الصلاة، لكنهم دخلوا بكبائر من غير توبة، هذا مات على الزنا من غير توبة فدخل النار، وهذا مات على شرب الخمر بغير توبة فدخل النار، وهذا مات على التعامل بالربا، وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على الغيبة والنميمة، وهذا مات على أكل حقوق وأموال الناس وهكذا.
هؤلاء حكم عليهم أهل البدع بالكفر، بالخلود في النار، مع أن النصوص بلغت حد التواتر في دخولهم الجنة بعد خروجهم من النار.
ومن ذلك هذا الحديث الذي ذكره المؤلف: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهو حديث صحيح.
فأهل الكبائر الموحدون لهم شفاعة ولا يخلدون في النار، وهناك بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته ويقول: (شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، أما من مات على الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر، فهذا لا شفاعة له، ولا يدفع عنه عذاب الله أحد ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لم ينفعه كما قال سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:٣٧].
وقال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:١٦٧].
وقال سبحانه: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:٩٧].
وقال سبحانه: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:٢٣] والأحقاب هي المدد المتطاولة كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية.
نسأل الله السلامة العافية.
فالمعتزلة والخوارج جعلوا عصاة الموحدين مثل الكفار، يخلدون في النار، وهذا من أبطل الباطل والنصوص الواردة في الكفار حملوها على العصاة كقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:٤٨] فإنها في الكفار {يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:٢٥٤].
{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:١٨] وهذه في الكفار أيضاً، أما العصاة فلهم شفاعة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن المسيب الأرغياني قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن زياد بن خيثمة عن نعمان بن قراد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمؤمنين المتقين لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين)].
وهذا الحديث فيه إثبات الشفاعة للعصاة الموحدين، وفيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة للموحدين العصاة، والحديث لا بأس به، وهو حديث صحيح مروي في كتب السنة، فقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي عاصم في السنة دون قوله: (لأنها أعم وأكفى).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا