[إثبات النزول الإلهي إلى سماء الدنيا]
قال رحمه الله: [فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، متفق عليه] .
هذا الحديث فيه إثبات صفة نزول الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا، والنزول صفة فعلية يثبتها أهل السنة والجماعة لله سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به، ولا يلزم من إثبات ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله اللوازم الباطلة التي يذكرها المبطلون المحرفون للكلم عن مواضعه، فإنه يجب الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من فعله أو فعل غيره، مما يتعلق به أو مما يتعلق بغيره كما تقدم ذلك في صفة القدرة، فمن أنكر الصفات الفعلية وقال: إن إثباتها يقتضي قيام الحوادث، فإنه رد ما أجمعت عليه الأمة، واتفق عليه سلفها الصالح من إثبات أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وهو ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإثبات النزول لله سبحانه وتعالى لا يلزم عليه اللوازم الباطلة التي أوردها المتكلمون، فقالوا: إن أثبتنا النزول اقتضى التنقل والحركة، واقتضى أنه ينتقل من مكان إلى مكان، ويتحول من محل إلى محل، كل هذه لوازم باطلة يجب على المؤمن أن يعرض عنها، وأن يضرب عنها صفحاً، وألا يهتم بها، وألا ترد له على بال، بل يجب أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، ثم ليعلم أنه لا يلزم على خبر الله أو خبر رسوله نقص بوجه من الوجوه، فكل لوازم الحق حق يجب إثباته.
فهذا الحديث أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الرب جل وعلا أنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، فهذا نزول ثابت كل ليلة.
(حين يبقى ثلث الليل الآخر) وهذا بيان لوقت النزول الإلهي.
فيقول: (من يدعوني؟) ومن القائل؟ الله سبحانه وتعالى الذي أضيف إليه النزول، فالقول مضاف إليه.
(من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) جوداً وكرماً، براً وإحساناً، ولطفاً منه جل وعلا بعباده، ينزل يعرض رحمته وبره وإحسانه على عباده، ولا تقل: كيف ينزل؟ فالجواب: الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وهذا جار في كل ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله لا نحيط بالكيفيات علماً كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:٧] ، وذلك المنفي عن غير الله من العلم هو علم الكيفيات.
فلا تسأل عن (كيف) ، ولا تقل: إن الليل يتنقل، فيلزم منه أن يكون الله نازلاً إلى السماء الدنيا كل الوقت؛ لأن ثلث الليل يتنقل، هذا كلام فارغ، هذا كلام من لم يقدر الله حق قدره، نحن لم نعلم كيفية الصفات حتى نثبت هذه اللوازم.
نثبت ما أثبته الله لنفسه، ولا نتعرض بعقول كليلة لا تصل إلى منتهى ما وصف الله سبحانه وتعالى به من الكمال في الكيفيات والهيئات والصور، فإن ذلك محجوب عنا لا ندركه، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:٢٥٥] ، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣] ، كل هذا ينبغي أن تستحضره، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] .
فإذا كان المؤمن قد شحن قلبه وملأه بهذه النصوص التي تثمر تعظيم الله وقدره حق قدره انجلت عنه هذه الشبهات، وزالت عنه هذه الوساوس، ولم يبق إلا في دائرة إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله على وجه الكمال، وأنه لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
وعلى هذا فالبحث الذي يذكره بعض أهل العلم، هل يخلو العرش من الرب إذا نزل أو لا؟ نقول: هل سأل عن هذا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يسألوا؛ ولذلك نسكت عما سكتوا عنه، ولا نخوض في هذه المسائل؛ ولذلك لما قال السري السقطي لـ حماد بن زيد أحد أئمة السلف: لا أؤمن بإله يتحول من مكان إلى مكان، قال مجيباً عنه إجابة العالم الراسخ: أؤمن برب يفعل ما يشاء.
وهذا من كمال تعظيم الله عز وجل.
فالإنسان يثبت ما أثبته الله عز وجل لنفسه دون أن يلج في هذه المضايق التي إنما جاءت من المشبهين المبطلين الذين يريدون إبطال ما دلت عليه النصوص، وتصوير الرب سبحانه وتعالى بما يعرف للمخلوق، وأن كيفية فعله ككيفية فعل المخلوق، ثم يضطر الإنسان إذا كان كذلك أن يقول: أعطل النزول، والنزول هنا معناه نزول الملك، أو نزول الأمر، وما أشبه ذلك.
فهم أولوا النزول هنا بأنه نزول ملك إلى السماء الدنيا أو نزول أمره سبحانه وتعالى أما هو فلا.
ونحن نقول: ما أضافه الله لنفسه من الأفعال فإنه له سبحانه وتعالى، لا نضيفه إلى غيره، ولا يمكن أن يقال: إن الملك أو الأمر ينادي فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟ هذا لا يكون إلا من رب العالمين، ولا يجوز أن يسأل الملك حتى يقال: إن النازل هو ملك من الملائكة، كل هذه تحريفات وتأويلات باطلة، يكفي في ردها وإبطالها تصورها، فإن الإنسان إذا تصور القول على حقيقته تبين له بطلانه؛ لأن كل ما خالف الحق فإنه لا يقوى على الثبات، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:١٨] ، وقال: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:٨١] .
هذه أوصاف ثابتة للباطل، وكلما خالف الكتاب والسنة فهو باطل.
إذاًَ: هذا الحديث فيه إثبات هذه الصفة الفعلية الاختيارية لرب العالمين وهي: النزول إلى السماء الدنيا، والنزول ليس لكل أحد، إنما هو نزول لمن يدعو ويستغفر ويسأل رب العالمين، وهذا مما استدل به أهل العلم على أن قرب الله سبحانه وتعالى ليس عاماً لكل أحد، إنما هو قرب من الداعي العابد المصلي، وليس قرباً لكل أحد.
فنثبت هذا النزول لله سبحانه وتعالى صفة لائقة به جل وعلا، بلا تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.