ثم قال رحمه الله: [وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه:(بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكروه اليوم قليل] .
هذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً، أي: أنه يحصل الإجمال بما في قدر الله عز وجل، ويحصل في مواضع التفصيل، فهناك إجمال وتفصيل في تقدير الله عز وجل فما في اللوح المحفوظ هو: ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم إن ما في اللوح المحفوظ لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ويطلع الله جل وعلا من شاء من خلقه على بعض ما فيه، ولذلك فالملائكة لا تعلم ما في اللوح المحفوظ، ليس لها علم بما فيه إلا ما أطلعهم الله سبحانه وتعالى عليه، ودليل ذلك في القرآن، فإنهم لم يعلموا فضيلة آدم بل لم يعلموا خلقه، فلما أخبروا بخلقه تعاظموا ذلك:{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة:٣٠] استغربوا أن يخلق خلق في الأرض، فبين الله عز وجل لهم الحكمة من الخلق.
المهم أن الأدلة تدل على أن ما في اللوح المحفوظ ليس معلوماً للخلق، ولكن الله سبحانه وتعالى يطلع من شاء على ما شاء مما تضمنه هذا الكتاب الذي أحاط بما هو كائن إلى يوم القيامة.
ثم إن هذا التقدير السابق لخلق السماوات والأرض يعقبه تقدير بالنسبة لبني آدم عند نفخ الروح فيه، فإنه إذا خلق الجسد قبل نفخ الروح فيه بعث الله سبحان وتعالى إلى هذه المضغة المخلقة ملكاً، وهذا من عناية الله عز وجل ببني آدم:(فيأمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) بأربع كلمات، وهذا يسمى: التقدير العمري.
ثم إن هناك تقديراً حولياً، وهو: ما يكون في ليلة القدر، فيكتب فيها ما هو كائن إلى ليلة القدر من العام القادم: تكتب فيها الآجال والأرزاق والأعمال.
ثم إن هناك تقديراً يومياً، وهو: ما أشار إليه قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}[الرحمن:٢٩] سبحانه وتعالى.
مراتب القدر هذه تجدها مفصلة ومجملة، فما يجمل في محل يفصل في محل، وهذا معنى قوله رحمه الله:[وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً] .
فحفظ رزقك مثلاً الذي يكون في التقدير العمري هل هو مفصل: إنه سيأكل كذا، ويشرب كذا أم أنه مجمل؟ الظاهر أنه مجمل، وقد يكون مفصلاً، لكن شقي أو سعيد: هذا فيه إجمال، يكتب أنه من أهل السعادة مثلاً، ويكتب تفاصيل العمل في التقدير الحولي، وفي التقدير اليومي.
قال:[ونحو ذلك، فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية] .
هذا التقدير من مراتب الإيمان بالقدر، وكان ينكره غلاة القدرية قديماً أي: في أول ظهورهم.