أما الإرادة فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إرادة أمرية شرعية دينية: والقسم الثاني: إرادة كونية خلقية، فما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما: أن الإرادة الشرعية الدينية الأمرية يندرج فيها كل ما يحبه الله عز وجل، فكل ما أمر الله به ديناً من الواجبات والمستحبات فإنه يدخل تحت الإرادة الشرعية، فالأمر بالصلاة والإحسان إلى الأقارب من الإرادة الشرعية، وهكذا كل ما أمر الله به ورسوله.
والإرادة الكونية الخلقية بمعنى المشيئة التي تقدم ذكرها، فالإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات، وهل هناك فرق بينهما؟ الجواب: نعم، هناك فرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية: الإرادة الشرعية لا يلزم وقوع المراد فيها، فالله عز وجل أراد من عباده أن يعبدوه، قال الله جل وعلا:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦] ، فهل تحققت هذه الإرادة؟ لا، قال الله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}[سبأ:١٣] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:١١٦] ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:٨] ، فالآيات التي تدل على أن مراد الله عز وجل أن يعبده الناس كثيرة، وهذا لم يتحقق، فعلمنا بهذا أن الإرادة الشرعية لا يلزم وقوعها، فقد يريد الله عز وجل الشيء شرعاً، لكنه لا يقع كوناً.
هناك أيضاً وصف آخر تتميز به الإرادة الشرعية: وهي أنها تتعلق بما يحبه الله سبحانه وتعالى؛ فكل ما يحبه الله مندرج تحت الإرادة الشرعية؛ لأنه لا يأمر شرعاً إلا بما يحب.
أما الإرادة الكونية الخلقية القدرية فإنها لا تتعلق بمحاب الله عز وجل، وما تضمنته وما يندرج تحتها ليس لازماً أن يكون مما يحبه الله عز وجل، بل يقضي الله كوناً وقدراً وخلقاً ما يكرهه ويبغضه ويسخطه، هذا أولاً، والثاني: أنها إرادة لازمة الوقوع، فما أراده الله كوناً لابد أن يقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فما قضاه كوناً لابد أن يقع، وبهذا نفهم أن قوله:(لا راد لقضائه) المراد بالقضاء هنا القضاء الكوني.
ننظر فيما ذكر المؤلف من الآيات لنرى أيها المندرج تحت الكونية، وأيها المندرج تحت الشرعية.
يقول رحمه الله:(وقوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ}[الكهف:٣٩] ) ، هذا فيه إثبات المشيئة التي هي الإرادة الكونية، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:٢٥٣] ، هذه أيضاً تثبت لله مشيئة كونية؛ لأن القتال لا يحبه سبحانه وتعالى، فلما وقع علمنا أنه من الإرادة الكونية.
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:١] الإرادة هنا هي الإرادة الشرعية، وقوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[الأنعام:١٢٥] ، (فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ) لو أن الآية اقتصرت على هذا لكانت شرعية، لكن لما ذكر الله جل وعلا إرادته للأمرين في سياق واحد كانت الإرادة هنا كونية، وهي نظير قوله تعالى:{مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:٣٩] ، فالإرادة هنا إرادة كونية قدرية أمرية.
وهل نقول: هناك مشيئة شرعية ومشيئة قدرية؟ لا، فإن المشيئة لا تنقسم.