للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[جمع الله سبحانه فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات]

ثم بعد أن فرغ من الاستدلال لما تقدم من القواعد ختم هذا الفصل بذكر قاعدة مهمة وهي في قوله رحمه الله: (وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات) أي: الله سبحانه وتعالى في خبره عن نفسه جمع بين النفي والإثبات، النفي هو أمر سلبي، والإثبات أمر إيجابي، واعلم أن المؤلف رحمه الله أطلق القول في هذا الموضع، ولكنه فصله في كثير من مؤلفاته، ومراده رحمه الله أن يبين أن كلا النوعين -النفي والإثبات- قد وردا في صفات الله عز وجل، وفيما أخبر به عن نفسه، لكن هل هما على حد سواء؟ هل النفي كالإثبات؟ الجواب: لا، فالأصل في الإثبات التفصيل في الأسماء والصفات، وقد يرد الإثبات مجملاً في الأسماء والصفات، أما النفي فعلى عكس ذلك، فطريقة القرآن: الإجمال في النفي وعدم التفصيل.

فمثال الإثبات المجمل في الأسماء: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠] ، هذا من الكتاب، وفي السنة دعاء الاستخارة: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك) هذا فيه إجمال في إثبات أسماء الله عز وجل: (سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) هذا إجمال ليس فيه تفصيل، فهو يفيد ثبوت الأسماء إجمالاً.

وإجمال الصفات في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] ، فهذا إثبات مجمل للصفات، ومنه قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:٢٧] ، والمثل في الموضعين بمعنى الصفة، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:٦٠] يعني: له الصفة العليا سبحانه وتعالى، وهذا إثبات مجمل.

أما التفصيل فهو الأصل، وهو الغالب، وهو الذي ملء به القرآن، من ذلك ما في آخر سورة الحشر من قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:٢٢-٢٣] ، كل هذا تفصيل في الأسماء والصفات؛ لأن كل اسم يتضمن صفة، ويدل على صفة أو صفات بدلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام.

أما النفي فالأصل فيه الإجمال، ومن ذلك الآيات التي سمعناها في نفي المثل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] ، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] .

واعلم أنه قد يأتي النفي مفصلاً، لكنه قليل، ثم إنه لا يرد إلا لغرض وهو: إثبات الكمال، إذاً: النفي الوارد في صفات الله عز وجل هل هو نفي لمجرد النفي؟ الجواب: لا، إنما هو نفي لإثبات كمال، فإذا قرأت في النفي المجمل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] يفيدك هذا تعظيم الرب الذي لا سمي له؛ لثبوت الكمال له في أسمائه وصفاته وأفعاله، فأفادنا الإثبات.

والنفي المفصل أيضاً لا يرد إلا لإثبات كمال، مثال ذلك قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] ، هذا المراد منه إثبات كمال العدل، وأيضاً يرد النفي في الصفات لنفي ما يتوهمه الجاهلون، أو نفي ما وصف به الجاهلون رب العالمين، وذلك كنفي الولد عنه، لماذا قال سبحانه وتعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:٣] ؟ لنفي ما وصفه به الجاهلون من أن له ولداً، ونفي الولد عنه يفيد كماله سبحانه وتعالى، وأنه لا شبيه له؛ لأنه ما من شيء إلا له فرع أو أصل، والله سبحانه وتعالى قد تنزه عن الفرع والأصل، فالنفي المفصل لا يرد إلا لأجل إثبات الكمال، سواء كان نفياً لما توهمه الجاهلون، أو نفياً لإثبات كمال ضد الصفات، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] ، وكقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] ، وكنفي العجز في غير ما آية.

إذاً: عرفنا أن النفي الأصل فيه الإجمال، ويرد مفصلاً، ولكن يقصد منه الكمال.

لماذا لا يرد النفي مفصلاً في صفات الله عز وجل؟ لأن النفي المحض الذي لا غرض منه عدم، والعدم ليس كمالاً، وليس بشيء كما يقول شيخ الإسلام فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً، بل قد يكون النفي نقصاً، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>