ثم قال: [وقوله سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:٣]] .
هذه الآية فيها إثبات صفة الأولية لله سبحانه وتعالى وصفة الآخرية، والظاهرية والباطنية، وهذه أربع صفات فسرها النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً يبين معناها، وذلك فيما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم:(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) .
فالأول هو السابق لكل شيء، وليس قبله شيء، قال:(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) ، فهو الآخر سبحانه وتعالى، فله الآخرية المطلقة؛ لأنه الدائم بلا انتهاء سبحانه وتعالى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وكل اثنين من هذه الأسماء الأربعة مرتبطان، فالأول والآخر مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى، والظاهر والباطن مرتبطان وبهما يحصل كمال المعنى المراد إثباته لله سبحانه وتعالى، فالأول والآخر فيهما إثبات الإحاطة الزمانية له سبحانه وتعالى، والظاهر والباطن فيهما إثبات الإحاطة المكانية له جل وعلا.
ثم أكد هذه الإحاطة بقوله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:٣] ، و (الظاهر) مضمن معنى (العلي) ، فهو ظاهر على كل شيء ظهوراًَ مكانياً -فهو فوق كل شيء سبحانه وتعالى- وظهوراً معنوياً.
وأما الباطن فقد فسره بعضهم بالقريب، فقالوا: هو القريب من كل شيء، والقرب هنا ليس القرب الذي ذكره الله عز وجل لأوليائه، كقربه ممن دعاه، وقربه من الساجد؛ فإن ذلك قرب خاص، وإنما القرب هنا قرب عام، وهذا على القول بأن القرب ينقسم إلى عام وخاص، وسيأتي رأي شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة فيما يذكره من صفة القرب، وأن القرب لا ينقسم إلى قرب عام وخاص، بل القرب لا يكون إلا خاصاً.
وعليه فيكون معنى الباطن الذي لا تخفى عليه من خلقه خافية، فلا يحجب سبحانه وتعالى خلقه عنه شيء، بل هو المطلع على ظواهرهم وبواطنهم، وقد أطال الكلام على هذا ابن القيم رحمه الله في (طريق الهجرتين) ، ولما أفهم وبين وخشي أن يكون القارئ غير مدرك لما ذكر، قال: فإذا لم تستطع فهم هذا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع، يعني أن الإنسان لا يلزم أن يكون مدركاً لمعنى كل اسم من أسماء الله عز وجل على وجه الكمال، فإذا خفي عليه شيء، أو ضاق ذهنه أو فهمه عن إدراك معنى شيء من أسماء الله عز وجل، فالواجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله ورسوله ويمضي.