[تجاوز الصراط وما يكون بعده]
ثم قال: [فمن مر على الصراط دخل الجنة] .
(من مر) أي: من جاز على أي هيئة كان، كلمح البصر، أو كالبرق، أو كالريح، أو كالفرس الجواد، أو كركاب الإبل، أو كالذي يعدو عدواً، أو يمشي مشياً، أو يزحف زحفاً، كل هؤلاء إذا مروا على الصراط استحقوا دخول الجنة، فلا يجاوز الصراط إلا من كتب له دخول الجنة وكان من أهلها.
قال رحمه الله تعالى: [فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته] .
قوله: [فإذا عبروا] أي: أهل الإسلام [عليه] أي: على الصراط [وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار] القنطرة: هي الجسر في لغة العرب، وتطلق على البناء المرتفع، فإذا كانت الجسر فإننا نعتقد أنه جسر غير الأول، فإن الجسر الأول هو الصراط الذي يمر عليه الناس، وهو مضروب على متن جهنم، وأما هذا فإنه جسر غير الأول، وإذا كان البناء المرتفع فهو واضح.
فعلى القولين أو على التفسيرين فإن القنطرة غير الجسر.
قوله: [بين الجنة والنار] هذه التي يوقف عليها أهل الإسلام.
قوله: [فيقتص لبعضهم من بعض] أي: يؤخذ حق بعضهم من بعض.
وذلك أنهم إذا جازوا النار وأرادوا دخول الجنة احتاجوا إلى مزيد تطهير، وإلا فإن هؤلاء يطهرون بمرورهم على الصراط إن كان لهم ذنوب، ويطهرون أيضاً بالمحاسبة والمقاصة التي تكون في عرصات يوم القيامة.
فإن أول ما يقضى بين الناس في الدماء، وهي من الحقوق التي تكون بين الناس، ويقضى أيضاً في الأموال وفي غيرها، وكل ذلك في عرصات يوم القيامة.
ثم يحصل لهم مقاصة أخرى، وهي لا تتعلق بأصول الذنوب، إنما هي ببقاياها وآثارها، فإن المقاصة السابقة لا تزيل ما في صدورهم من غل، ولا تذهب ما في قلوبهم من شحناء وبغضاء، فإذا أتوا إلى هذا الموقف الذي لم يبق بعده إلا أن يدخلوا الجنة أزيل ما في قلوبهم من أوضار ومن بقايا آثار الذنوب، كما قال الله جل وعلا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:٤٧] ، فينزع الله سبحانه وتعالى في هذا الموقف ما في صدورهم، ويزيل ويهذب ما بقي من آثار الذنوب، وذلك لأن الجنة طيبة لا يدخلها إلى طيب، قال الله سبحانه وتعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:٧٣] ، والطيب هنا هو زوال كل أثر سوء في القول أو في العمل أو في البدن أو في القلب، فلا يدخلها إلا المخلصون المنقون.
فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا وخلصوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، أي: لم يبق لهم إلا أن يدخلوا الجنة، وأما الدخول الحقيقي فإنه لا يكون إلا بعد استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال رحمه الله: [وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم] .
فقوله: (يستفتح) أي: يطلب فتح بابها، وبه نفهم أن الجنة لها أبواب، وأن أبوابها مغلقة؛ وذلك صيانة لها، وحفظاً لها، وإكراماً لأهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يستفتح يطلب فتح باب الجنة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أنا أول شفيع في الجنة) ، وهذا أول شفاعاته صلى الله عليه وسلم المتعلقة بأهل الجنة، وهي طلب الإذن في الدخول والاستفتاح، كما جاء في الصحيح أنه (يقرع بابها فيقول الخازن -خازن الجنة-: من؟ فيقول: محمد.
فيقول الخازن: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك) ، فإذا فتح باب الجنة دخل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخل الجنة، فله السبق في جميع مواقف القيامة، فهو أول من تنشق عنه الأرض صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يجوز الصراط، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من يدخلها صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: [وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته] .
أول من يدخل الجنة من أمم العالم من آدم إلى آخرهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، وأول من يدخل الجنة) ، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ، وهذا السبق -كما ذكرنا- ليس خاصاً بدخول الجنة، بل هو سبق في جميع مواقف القيامة، فهم أول من يحاسب، وأول من يقضى فيهم، وأول من يجوز الصراط، وأول من يدخل الجنة، وذلك لفضلهم ولتحقيقهم العبودية على وجه الكمال فاستحقوا هذا الفضل، قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:٥٤] .