[شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها] .
هذا هو بحث الشفاعة الذي اتفقت الأمة على بعضه، وهو متفق عليه عند الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
يقول رحمه الله: (وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات) .
وإذا قيل لك: من أين هذا العد؟ فقل: هذا من الاستقراء والتتبع، ويستفاد هذا من دلالة الكتاب والسنة.
والشفاعة في اللغة: مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، وفي الاصطلاح: التوسط للغير في جلب نفع أو دفع ضر، وعرفها شيخ الإسلام بقريب من هذا فقال: التوسط في جلب النفع أو التخليص من السوء، والتخليص من السوء هو من صور دفع الضر.
وهذه الشفاعة جاءت في القرآن العظيم على نحوين، فجاءت مثبتة، وجاءت منفية.
فالشفاعة المثبتة: هي ما دل عليه الكتاب والسنة من شفاعة أهل التوحيد بعد إذن الله جل وعلا ورضاه عن المشفوع، فهذه هي الشفاعة المثبتة، وأما الشفاعة المنفية فهي الشفاعة الشركية التي توصل بها أهل الشرك إلى صرف العبادة لغير الله.
فالبحث هنا في الشفاعة المثبتة، والشفاعة المثبتة تنقسم إلى قسمين من حيث اعتقاد أهل القبلة فيها: الأول: قسم أجمع عليه أهل الإسلام، ولم يقع بينهم فيه خلاف، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى، شفاعته في أهل الموقف أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء.
فهذه لم يخالف فيها أحد من أهل الإسلام، بل أجمع عليها المسلمون، وهي المشار إليها في كلام المؤلف في الشفاعة الأولى حيث قال: [أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف- موقف القيامة- حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء] فمتى يكون هذا؟ بعضهم قال: يكون في أول الأمر.
لكن الظاهر أنه بعد أن يلقى أهل النار من الكفار فيها، فإنه إذا ألقي أهل النار فيها عند ذلك يشتد الكرب على أهل الإيمان، ولا يبقى إلا هم، فيتراجع الناس ويطلبون من يشفع عند الله أن يخلصهم من هذا الكرب وهذه الشدة، فيأتون آدم يطلبون منه الشفاعة فيعتذر، ثم يطلبون نوحاً فكذلك يعتذر، ويأتون بعد ذلك إبراهيم فيعتذر، وموسى فيعتذر، ويأتون عيسى فيعتذر، لكنه لا يذكر ذنباً بخلاف من تقدم، ويقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وبهذا الخبر يتبين أن هذا المقام لا يصلح إلا لمن وصف بهذا الوصف، وهو مغفرة ما تقدم من الذنوب وما تأخر.
فاعتذار الأنبياء إنما هو لأجل عظم الموقف، ورفعة المكان والمقام الذي طلب منهم، وهو الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى في فصل القضاء، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الناس: (أنا لها أنا لها) .
ثم إنه يذهب صلى الله عليه وسلم ويطلب الشفاعة، لكنه لا يبتدئ بالطلب، إنما يأتي الله جل وعلا، فإذا رأى ربه سجد، فيقال له بعد طول سجود وكثرة حمد وثناء: (ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فعند ذلك يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب من رب العالمين أن يأتي لفصل القضاء.
والأحاديث التي في الصحيحين تختصر ذكر الشفاعة العظمى، فإذا ذكرت ما يكون من مراجعة الأنبياء ووصول الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما يكون منه من سجود؛ تذكر بعد ذلك الشفاعة في الأمة خاصة، ولا تذكر الشفاعة في فصل القضاء إلا في أحاديث قليلة، والسبب في هذا -وهذه مسألة مفيدة قل من ينبه عليها- أن الشفاعة العظمى لا خلاف فيها بين أهل الإسلام، ولذلك طوى ذكرها رواة الأحاديث، بخلاف الشفاعة في أهل الكبائر، وبقية أنواع الشفاعة؛ فإن الخلاف بين أهل السنة وغيرهم فيها قائم؛ فلذلك احتاج الرواة إلى أن يصرحوا ويذكروا شفاعته في الأمة وفي أهل الكبائر والذنوب، وطووا ذكر الشفاعة العظمى، مع أن المراجعة لا تكون في الشفاعة للأمة، إنما تكون في فصل القضاء، وقد جاء ذكر طلب فصل القضاء من النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح، وهو أمر مجمع عليه.
فإذا قرأت في صحيح البخاري، وفي صحيح مسلم وفي غيرهما أحاديث الشفاعة تجد أنه بعد قول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: (اشفع) يسأل الشفاعة لأمته، مع أن الناس طلبوا منه المجيء لفصل القضاء لعموم أهل الموقف، وليس الشفاعة الخاصة بأمته صلى الله عليه وسلم.
فيأتي الله جل وعلا لفصل القضاء، وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩] ، فالمقام المحمود فسره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وفي غيرهما بالشفاعة، وهي الشفاعة العظمى التي يحمده عليها الأولون والآخرون.