للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفرق المخالفة لأهل السنة في صفة العلم]

واعلم -بارك الله فيك- أن صفة العلم خالف فيها طوائف، وأشدهم مخالفة الفلاسفة الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الجزئيات، إنما يعلم الأمور الكليات.

فليس عنده علم بجزئيات ما يفعله العباد، إنما يعلم الكليات والأمور العامة، وأما الجزئيات فإنه لا يعلمها، وسبب ذلك أنهم قالوا: إنه يلزم من إثبات علمه بالجزئيات تجزؤ علمه.

فانظر كيف الشبهة تدخل عليهم فتحملهم على تكذيب ما جاءت به الرسل، وما اتضحت وظهرت أدلته في الكتاب والسنة! ونقول لهم: خبتم وخسرتم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بأن علمه محيط بكل شيء، وفي قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} [الأنعام:٥٩] رد مفحم لهؤلاء القوم؛ لأن الله تعالى أثبت أنه يعلم كل شيء حتى الورقة التي تسقط من الشجرة يعلمها سبحانه وتعالى، ولا تخفى عليه، هذا من وجه.

ومن وجه آخر أن ما أخبر الله به في كتابه من تفاصيل ما وقع من الأمم السابقة والأنبياء فعلاً وقولاً يدل على أنه سبحانه وتعالى قد أحاط علمه بالجزئيات، فالعلم بالجزئيات ثابت له سبحانه وتعالى، ولا يلزم عن ذلك نقص، بل إنما هو وهم وخيال فاسد، والواجب إثبات ما أثبته الله في الكتاب والسنة، ولا شك أن من قال بهذا القول فهو كافر بتكذيبه ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة، وما دل عليه العقل من أن الله متصف بالعلم الواسع لكل شيء.

وطائفة ثانية ضلت في هذا الباب في صفة العلم، وهم غلاة القدرية، فقالوا: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها، أما قبل وقوعها فإنه لا يعلمها؛ لأنه لو علمها لكان ظالماً -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-.

وهذه البدعة أول ما ظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، وعرضت على ابن عمر فقال لمن أخبره عن هؤلاء: أخبروهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به ابن عمر لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً لم يتقبل منه حتى يؤمن بالقدر.

وهذه بدعة مهجورة مندثرة؛ لأن أصحابها تبين لهم أن قولهم أن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وجودها مضادة واضحة لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الله عز وجل وفي سنته صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال الشافعي: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا وإلا كفروا، وهذه البدعة بدعة كفرية، فمن قال: إن الله لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي أنزل عليه يدل على أن الله سبحانه وتعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها.

وممن ضل في هذه الصفة مثبتتة الصفات، وهذا اسم يتكرر في كلام شيخ الإسلام رحمه الله وفي كلام غيره ممن يتكلم عن العقائد، فمن هم مثبتة الصفات غير أهل السنة والجماعة؟ هم الأشعرية والكلابية والماتريدية، وغيرهم ممن يثبت شيئاً من الصفات، لكن هذه الطوائف هي أبرز الطوائف من مثبتة الصفات، فهؤلاء يثبتون العلم لله سبحانه وتعالى كما يثبتون غيره من الصفات الذاتية التي يسمونها الصفات المعنوية؛ لأن المعنى قد دل عليها، وهي سبع صفات معروفة نظمها بعضهم فقال: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر فهذه هي السبع الصفات التي يقر بها مثبتة الصفات، وينبغي أن يعلم أن إقرارهم بهذه الصفات ليس كإقرار أهل السنة والجماعة، فإيمان هؤلاء بهذه الصفات مخالف لما عليه سلف الأمة، ولنأخذ لذلك مثلاً في هذه الصفة التي نحن نبحث فيها، وهي صفة العلم، فأهل السنة والجماعة يثبتون أن لله علماً أزلياً، وأنه سبحانه وتعالى العليم بكل شيء قبل أن يكون، وأنه سبحانه يعلم بالأشياء بعد وقوعها، كما أنه يعلم بها قبل وقوعها، أما هؤلاء فإنهم يقولون: إن العلم واحد أزلي لا يتجدد كسائر الصفات، والسمع أزلي واحد لا يتجدد، والبصر أزلي واحد لا يتجدد، وسمع الله لكلامنا ليس بسمع حادث في هذه اللحظة، إنما هو السمع القديم الذي في الأزل، وبصر الله لنا ونظره إلينا ليس ببصر حادث متجدد في هذه اللحظة، إنما هو بصر أزلي قديم، وكذلك علمه بما نقول ليس بعلم حادث متجدد، إنما هو بعلم قديم، وقالوا في سبب هذا: إنه إذا أجزنا تجدد وحدوث هذه الصفات لزم من ذلك أن تقوم به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فهو حادث، هكذا زعموا، وهذه شبهتهم.

والجواب أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد، فهو يعلم الأشياء قبل وقوعها، ويعلمها بعد وقوعها، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:١١] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:٣١] ، وكل هذا العلم علم حادث بعد أن لم يكن، لكن هل هذا العلم سبقه جهل؟ الجواب: لا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا ينحل الإشكال عند كثير من المفسرين في هذه الآيات التي تثبت حدوث العلم لله عز وجل، فهم يقولون: هذا العلم علم الظهور الذي يحصل به الإثابة والأجر، فهو علم ظهر به حال الإنسان، لكن هذا العلم لا يعارض أن يكون قد حدث، بل ظاهر القرآن أنه حدث بعد أن لم يكن، ولا نقص في ذلك، وأنت -يا أخي- اعمل بالقاعدة المتقدمة أن (ما أثبته الله لنفسه فأثبته) ، ولا تخش شيئاًَ، وإذا قيل لك: ما دليله فعندك حجة من الكتاب أو السنة.

واعلم أنه لا يمكن ومن المحال أن يترتب على ما جاء في الكتاب والسنة أي لازم باطل، بل كلها خيالات فاسدة وأوهام كاذبة، تتساقط عند الحجة والبرهان من الكتاب والسنة؛ ولذلك نثبت هذا الأمر ولا نبالي.

وكذلك السمع والبصر، فالله سبحانه وتعالى أثبت سماعه للكلام، وأثبت استمرار هذا السماع، فقال سبحانه وتعالى في سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:١] ، و (سمع) فعل ماض، فهو إخبار عما مضى، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:١] .

ثم قال: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ} [المجادلة:١] ، وهذا يدل على أن السماع حادث بعد أن لم يكن، وكيف نقابل ربنا وبأي حجة عندما نقول: إن السمع الذي حصل بكلام المخلوقين هو بالسماع الأزلي، والله يقول في كتابه: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:١] ؟ ولذلك كل من استمسك بالنصوص سلم من الاضطراب والتناقض، وكل من أعرض عنها فهو كما قال الله عز وجل عن المكذبين بما جاءت به الرسل: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥] .

أخي الكريم! ما هناك بدعة من البدع إلا وهناك من يقول بها في هذا العصر لا سيما البدع المشهورة، كبدعة الاعتزال، فإنها مثل التراب في الأمة الآن، وبدعة الأشاعرة لا حصر لهم ولا عد، والآن نسمع من الذين يطالعون الانترنت أن هناك محاضرات عبر الانترنت في إنكار الاستواء، فكيف يقال: إننا لا نحتاج إلى أن نطرق هذه المذاهب ونناقشها ونبينها؟ بل نحن بحاجة إلى معرفة المذاهب المبتدعة القديمة لنربطها بالبدع الحديثة، ولنتمكن من الرد على المحدثات الجديدة؛ لأنه إذا لم نكن على علم بطريقة سلفنا الصالح في الجواب على شبه هؤلاء ومناقشتهم فإننا ندخل الميدان بلا سلاح، وإن كان معنا الكتاب والسنة لفظاً بدون معنى، فإن الكتاب والسنة سلاح ماض في يد من تدبر وفهم وعقل عن السلف الطريقة التي ساروا عليها في كتاب الله وسنة رسوله.

فهذا السؤال يتكرر: لماذا ندرس بدعة المعتزلة وبدعة الخوارج وبدعة الرافضة والبدع الأخرى؟ فنقول: ندرسها لأنها موجودة وإن تغيرت المسميات، مع إن كثيراً من البدع باقية باسمها، فالمدرسة الاعتزالية موجودة، وللأسف أنها موجودة حتى في كثير ممن ينتسبون إلى السنة، وهم لا يشعرون بذلك، فالواجب العناية بهذه المذاهب ومعرفتها؛ حتى نتمكن من الرد على أصحابها، وعلى ما يتجدد من البدع مما يتفرع عنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>