وجوب الإيمان بالاستواء والمعية دون تنافٍ بينهما
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] ، أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان.
وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته] .
هذا فيه الرد على الذين قالوا بأن الله سبحانه وتعالى له معية يخالط بها خلقه، فمنهم من أثبت ذلك وهم الحلولية، ومنهم من أنف عن هذا فألغى المعية، فيبين المؤلف رحمه الله أن قوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] ، لا يلزم عليه هذه اللوازم الباطلة، والاعتقادات الفاسدة في رب العالمين، فقال: (وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] أنه مختلط بالخلق) بين عدم دلالة هذا اللفظ على هذا المعنى بعدة أوجه: الوجه الأول: إن هذا لا توجبه اللغة، هذا أول الأوجه في إبطال أن معنى المعية المخالطة.
لماذا لا توجب اللغة هذا المعنى؟ لأن (ما) في كلام العرب تفيد مطلق المقارنة والمصاحبة، ولا يلزم من ذلك المخالطة والممازجة والمماسة، هذا هو الوجه الأول لإبطال قول من قال: إن من لازم قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] أن يكون مختلطاً بخلقه، فيقال: هذا المعنى لا توجبه اللغة؛ لأن (ما) في جميع استعمالاتها في اللغة ليس مما تفيده أن ثبوت المعية يقتضي المخالطة والممازجة والمماسة، هذا أمر.
الوجه الثاني: قوله: (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة) فسلف الأمة يعتقدون اعتقاداً راسخاً ثابتاً بأن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وهو معهم جل وعلا أينما كانوا، فلم يفهم سلف الأمة من إثبات المعية أنه مخالط للخلق، أو أنه ممازج للخلق، أو أنه حال فيهم، أو أنه متحد بهم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً! وهذا خلاف ظن الذين قالوا: إنه معنا بذاته في كل مكان، فالذين يقولون: إن الله في كل مكان، يلزم منه أن يكون سبحانه وتعالى في المطابخ والحشوش وأماكن مستقذرة، وكان الجهمية في البداية يقولون: إن الله في كل مكان، فلما أورد عليهم: كيف لا تنزهون الرب عن أن يستوي على أعظم مخلوقاته وهو العرش وتجعلونه في كل مكان، في الأواني والصحون والحشوش؟! فقال متأخروهم: إنه ليس فوق العالم، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ووصفوه بالعدم، هذا قول متأخري الجهمية؛ وسبب ذلك هو ما أورد عليهم من إشكالات لما قالوا: إنه سبحانه وتعالى في كل مكان.
فسلف الأمة مجمعون على أن المعية لا تقتضي المخالطة، فمن الجمل والعقائد التي شحنت بها كتب أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه -بائن أي: منفصل عن خلقه- ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!! وقد أنكر القرآن ما يعتقده النصارى من أن الله عز وجل حل في المسيح، وأن فيه من الرب ما جعله إلهاً في مواضع كثيرة.
الوجه الثالث في إبطال هذا المعنى: (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) ، فالخلق مفطورون على أن الرب سبحانه وتعالى في العلو، فلا أحد يطلب ربه يمنة ولا يسرة ولا تحت، كل من طلب ربه طلبه في جهة العلو سبحانه وتعالى، وهؤلاء يقولون: إن توجه الداعي إلى السماء في دعائه؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل السماء قبلة الدعاء كما جعل الكعبة قبلة المصلين، سبحان الله! وكيف نجيب عليهم؟ نجيب عليهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه، فإنه لما استشهد الله على أمته أشار إلى جهة العلو، وهل كان يدعو؟ لا.
لم يكن داعياً، فبطل قولهم: إن السماء قبلة الدعاء.
فنقول: السماء تتوجه إليها القلوب وتفزع إليها فطرةً قبل أن يعلم العالم بأن رب السماوات والأرض عليها، وأنه في جهة العلو سبحانه وتعالى، وهذا معنى قوله: (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) وهذا استدلال بالفطر، فالآن عندنا استدلال: باللغة.
وبالإجماع.
وبالفطرة.