[الإيمان قول وعمل]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح] .
هذا الأصل من الأصول المهمة التي يجب على المؤمن أن يعلم الحق فيها لكثرة الاشتباه والاضطراب.
قال رحمه الله: ومن أصول أهل الفرقة الناجية -جعلنا الله وإياكم منهم- أن الدين والإيمان، الدين: عام، والإيمان: خاص، فهذا من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الدين يشمل الإيمان، ويشمل الإسلام، ويشمل الإحسان كما تقدم في أول هذا الكتاب المبارك.
(أن الدين والإيمان قول وعمل) وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة متقدموهم ومتأخروهم، والعبرة بإجماع السلف، والسلف مجمعون على هذا، حتى إنه لكثرة كلامهم وظهوره في هذا الباب، مما يؤدي إلى هذا المعنى: أن الإيمان قول وعمل؛ أصبحت هذه الكلمة من علامات السنة، ومن شعائرهم، ومن شعاراتهم، فمن شعارات أهل السنة وأعلامهم: أن الإيمان اعتقاد، وأن الإيمان قول وعمل.
وقد تنوعت عبارات أهل السنة والجماعة في بيان الإيمان: فبعضهم قال: الإيمان قول وعمل كما هو كلام الشيخ رحمه الله، ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية، ومنهم من قال: الإيمان قول وعمل ونية واتباع سنة، ومنهم من قال: الإيمان قول اللسان، واعتقاد الجنان، وعمل الجوارح.
واعلم أن هذه المنقولات عن السلف لا اضطراب فيها ولا اختلاف، بل هي من تنوع العبارة، فالعبارة متنوعة لكن المضمون واحد، والعقد فيها متفق، فلا اختلاف، وكلها ترجع إلى أمر واحد، والخلاف هو باعتبار تقسيم المعرف للإيمان، أما من حيث المضمون وما تؤديه هذه العبارات المختلفة فهو واحد.
فمن قال: إن الإيمان قول وعمل فمراده: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.
ومن قال: إن الإيمان قول وعمل ونية فمراده: أن عمل القلب لا يدخل في القول؛ لأن القول ظهور من اللفظ، والقلب لا يظهر منه شيء فاحتاج إلى زيادة نية.
ومنهم من زاد: (اتباع السنة) ؛ لأن العمل إذا لم يكن متبعاً فيه السنة فإنه مردود على صاحبه، فهذه العبارات المختلفة تؤدي إلى معنىً واحد كما بين ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وقال: إن هذا من اختلاف التنوع، والمضمون في كلامهم واحد لا خلاف فيه.
يقول رحمه الله: (قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح) .
فأضاف القول إلى القلب، لو قال قائل: كيف تضيفون القول إلى القلب والقول لا يكون في الأصل إلا في اللسان؟ نقول: إن القول يضاف إلى اللسان وإلى القلب، فهو عند الإطلاق قول اللسان، لكن إذا قيد بإضافة إلى القلب فإنه يصح إثباته للقلب، فما هو قول القلب في كلام المؤلف رحمه الله؟ هو إقراره واعتقاده ونيته، وقال بعضهم: قول القلب هو إخلاصه.
فقول المؤلف رحمه الله: (قول القلب) يعني: اعتقاده ونيته وإقراره، (وقول اللسان) هو ما ظهر من اللسان من الإقرار بالشهادتين، ولا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً إلا بهذين الأمرين، فإذا صدر منه قول اللسان دون إقرار القلب هل ينفعه هذا الشيء؟ لا، فمن تكلم بالشهادتين لكن قلبه خال منهما فهو منافق، هذه هي حال المنافقين: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:١١] .
ولو قر في قلبه تعظيم هذا الدين ومحبته والتصديق به لكنه لم يتلفظ بلسانه، فلم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو قادر على التلفظ، هل يكون مسلماً؟ الجواب: لا، بإجماع أهل الإسلام؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) والشهادة إنما تكون بالإعلام والبيان، وفي رواية: (حتى يقولوا) والأكثر: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله) ، فعلم بهذا أنه لا تستقر قدم أحد على دين الإسلام إلا بهذين الأمرين، قول القلب: وهو إقراره واعتقاده ونيته، وقول اللسان: وهو تلفظه بالشهادتين.
وقوله: (عمل القلب) هل القلب له عمل؟ نعم، القلب له عمل عظيم، وهو أصل عمل الجوارح، المحبة أين هي؟ هل تتحرك اليدان بالمحبة؟ المحبة أمر قلبي، الخوف أين يكون؟ في القلب، وهكذا الخشية الرجاء التوكل الإنابة الإخبات، فأعمال القلوب كثيرة، وهي حركاته في الطاعات وهي من الإيمان، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحياء شعبة من الإيمان) ، والحياء أمر قلبي، وأصله في القلب، وإن كانت تظهر علاماته على الجوارح، لكن أصل الحياء إنما يكون في قلب الإنسان.
قال: (وعمل اللسان) .
الشهادتان مضت في قول اللسان، فما هو عمل اللسان؟ اشتغاله بذكر الله عز وجل: التسبيح التحميد التكبير قراءة القرآن تعليم العلم تعلم العلم إذا كان بقراءة، كل هذا من عمل اللسان فهو من الإيمان، دليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، الشاهد في قوله: (قول لا إله إلا الله) ، وكذلك الأحاديث الكثيرة التي لا حصر لها في فضائل الأقوال، وترتيب الأجور على ما يكون من الإنسان من الأقوال، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة) ، والجنة إنما تكون لأهل الإيمان، فجعل هذا القول سبباً لدخول الجنة، وهي لا تكون إلا لأهل الإيمان؛ فدل ذلك على أن القول من الإيمان.
قال: (والجوارح) أي: عمل البدن، فعمل البدن كله من الإيمان؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان شعب الإيمان: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فبهذا نعلم أن الإيمان لا يكون مجرد اعتقاد في القلب، بل لا بد من اعتقاد القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح، فالذي يقول: الإيمان في قلبي، ولا يصلي ولا يتلفظ بالشهادتين هل يكون مسلماً؟ الجواب: لا؛ لعدم تلفظه بالشهادتين، وكذلك الذي يترك جنس العمل فلا يعمل عملاً صالحاً بالكلية هذا أيضاً انتفى عنه ركن الإيمان وهو العمل؛ لأن الإيمان قول وعمل.