المعنى الثاني الذي يفسر به القرب: هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل الإثبات، والمقصود بأهل الإثبات الذين يثبتون الصفات في الجملة، ويدخل معهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية، فسلف الأمة وأئمة السنة يثبتون القرب القائم بذاته جل وعلا، ويثبتونه قرباً قائماً بذاته، وهو فعل من أفعاله الاختيارية سبحانه وتعالى، ولا يلزم منه مماسة ولا مخالطة ولا شيء من هذه الظنون الكاذبة في الرب سبحانه وتعالى.
أما جمهور المتكلمين من مثبتة الصفات فإنهم ينفون هذا المعنى، ولماذا ينفون هذا المعنى؟ لأنهم لا يثبتون الصفات الفعلية الاختيارية، وهذه معضلة عندهم، ومشكلة كبيرة، آثارها في جميع ما أخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه من صفات الفعل، فلعدم إثباتهم الصفات الاختيارية حملهم على إنكار هذه الصفات، وجعلوا نصيبها التأويل والتحريف بالباطل، وتحريف الكلم عن مواضعه، ولو قيل لهم: من أين لكم أنه سبحانه وتعالى لا تقوم به الأفعال الاختيارية وأنه لا يفعل ما يشاء؟ قالوا: لأن قيام الحوادث بالرب يقتضي الحدوث؛ لأن كل من قام به حادث فهو حادث، انتبه لهذه الشبهة! قلنا لهم: من أين لكم هذه القاعدة التي تعارض نصوص الكتاب والسنة، والتي سلطتموها على دلالات النصوص؟ قالوا: هذه قاعدة مجمع عليها.
قلنا لهم: إن الإجماع لابد له من دليل، فالإجماع دليل سمعي، فأين ذلك في كلام الله؟ وأين ذلك في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وأين ذلك في كلام سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ هل في كلام الله سبحانه وتعالى أنه يمتنع أن تقوم به الحوادث، وأن من قامت به الحوادث فهو حادث؟ لا، ولم يأتوا بشيء ولا حرف واحد، فيقال لهم: هذه شبهة عقلية سلطتموها على النصوص، وجعلتموها مانعة لما دل عليه الكتاب والسنة من كمال الرب، وأنه سبحانه وتعالى فعال لما يريد، وأنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فإذا بطلت هذه الشبهة بطل كل تأويل وتحريف في باب الأسماء والصفات.
وهذه من أكبر الشبه التي تمنعهم من إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى.
ونعود إلى ما نحن فيه، فنقول: القرب الثابت لله سبحانه وتعالى له معنيان: معنىً يتفق عليه أهل الإثبات وهو قرب قلب عبده منه.
والثاني: يثبته أئمة السنة وسلف الأمة وهو: القرب القائم بذات الرب جل وعلا، وفي المعنيين لا يلزم أي لازم باطل، فكما أنه لا يلزم من قرب قلب العبد من الرب جل وعلا الذي يثبته أهل الإثبات أن يكون سبحانه وتعالى مختلطاً بخلقه، بل قلب العبد قريب من ربه، والرب جل وعلا فوق سمواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، والعبد في الأرض، فكذلك لا يلزم على المعنى الذي أثبته أهل السنة والجماعة أي لازم باطل.