[معنى حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم] .
هذا الحديث فيه: أن صاحب الكبيرة ينفى عنه الاسم المطلق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: حال مواقعته لهذه المعصية لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، لماذا لا يكون مؤمناً كامل الإيمان؟ لأنه لو كان مؤمناً كامل الإيمان لترك المعاصي؛ لأن الإيمان الكامل هو اسم للعمل بجميع ما أمر الله به ورسوله، وترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، فلما كان هذا مخالفاً لما أمر الله به ومنتهكاً لما نهى الله عنه فإنه لا يستحق هذا الاسم.
من السلف من مثل الإيمان والإسلام بدائرتين: الدائرة الواسعة الكبيرة هي دائرة الإسلام، وداخلها دائرة أضيق منها وهي دائرة الإيمان، فإذا خرج من دائرة الإيمان هل يكون قد خرج من الإسلام والإيمان؟ لا، إنما خرج من الإيمان وهو في دائرة الإسلام، وهو الذي أفاده قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤] ، فأخرجهم من الدائرة الضيقة التي لا يصل إليها إلا من جاهد واجتهد في طاعة الله وترك ما نهى الله عنه؛ إلى الدائرة الواسعة التي هي دائرة الإسلام الثابتة لكل من أقر بمباني الإسلام وأركانه الخمسة.
(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، يرتفع عنه هذا الاسم، والذي يرتفع عنه هو الاسم المطلق الكامل (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) .
وبعد أن ذكر المؤلف هذين الدليلين الدالين على أن انتفاء الاسم لا يرفع وصف الإيمان، كما أن ثبوت الاسم يفيد الثبوت الكلي والثبوت الجزئي، انتقل رحمه الله إلى بيان القول الوسط في مرتكب الكبيرة، فقال: (ونقول هو) الضمير يعود إلى الفاسق الذي بدأ الكلام عنه في قوله: ولا يسلبون الفاسق الملي، قال: (ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان) ، لكن هل يسوغ ويصح أن يقال: هو مؤمن فقط دون تقييد؟ الجواب: لا، إنما هذا قول المرجئة الذين يثبتون الإيمان لكل من اتصف به، وأنه كامل الإيمان.
إذاً: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا أيضاً تقييد: (مؤمن بإيمانه) يعني: مؤمن بما معه من الإيمان الذي حمله على فعل الطاعات وترك المنهيات (لكنه فاسق) يعني: خارج عن الإيمان بكبيرته، يعني: بسبب كبيرته، فالباء هنا للسببية.
الفسوق هو الخروج، والخروج هنا عن أي شيء؟ عن دائرة الإيمان الكامل المطلق إلى دائرة الإيمان الناقص، وهي دائرة الإسلام، فلا يعطى الاسم المطلق، ما هو الاسم المطلق؟ الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته، يعني: ولا يسلب الإيمان بالكلية بسبب كبيرته بل يثبت له أصل الإيمان، ويكون موصوفاً به على وجه العموم لكنه ناقص الإيمان، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وبهذا يكون قد انتهى البحث فيما يتعلق بفصل الإيمان.
واعلم أن هناك مسألة طال فيها الخلاف وهي هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أو لا؟ والصحيح الذي لا ريب فيه أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف بلا ريب، ومن قال: إن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان فإنما توهم ذلك من أن الإيمان ورد مقيداً في مواضع عديدة من كتاب الله عز وجل وذكر بعده العمل، والجواب: أن الإيمان إذا ورد مقيداً وذكر بعده العمل فإنه يكون -كما تقدم تقريره- المراد به: عمل القلب، ويكون العمل عمل الجوارح فمثلاً قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:٢٢٧] الإيمان هنا المراد به: عمل القلب، وقوله: {عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} المراد به: عمل الجوارح، وهذا لا ينفي أن يكون العمل من الإيمان، لكن إذا ورد الإيمان مطلقاً فإنه لا شك في دخول الأعمال في مسماه؛ ولذلك لما ورد وفد عبد قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (آمركم بالإيمان ثم قال: أتدرون ما الإيمان؟ -ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان- فقال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم) ، ففسره بتفسير يتضمن العمل بأنواع العمل القلبي وقول اللسان وعمل اللسان وعمل الجوارح، ومن أظهر الأدلة على أن الإيمان يندرج تحته العمل ويدخل في مسماه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) .