[عموم فضل الله ورحمته على هذه الأمة والأمم قبلها]
قال رحمه الله: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة، وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذاك ما يشفي ويكفي، فمن ابتغاه وجده] بعد أن فرغ من ذكر أنواع الشفاعات قال: [ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته] .
كما ثبت ذلك في الصحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون لم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين رب العالمين جل وعلا، فيخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط؛ تفضلاً منه ورحمة.
لكن اعلم أن قوله: (لم يعملوا خيراً قط) أي: فيما زاد على أصل التوحيد؛ لأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا موحد، لكن هؤلاء لما عظمت ذنوبهم وثقلت سيئاتهم وعظم جرمهم لم يسعهم شفاعة الملائكة ولا شفاعة النبيين ولا شفاعة المؤمنين، فلم يسعهم إلا فضل الله وجوده ورحمته التي وسعت كل شيء، فيخرجهم سبحانه وتعالى تفضلاً منه ورحمة.
قال: [ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الجنة] .
قوله: (فضل) يعني: زيادة لم تسكن وذلك لسعتها، نسأل الله أن نكون من أهلها.
قال: [فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة] .
أي: ينشئ لها أقواماً في ذلك الوقت من غير أهل الدنيا فيدخلهم الجنة، وهؤلاء لا يلحقون بأهل الجنة الذين هم من أهل الدنيا ضيقاً ولا مزاحمة، بل هذا لبيان عظيم سعة هذه الجنة، وأن أهل الجنة من أهل الدنيا إذا قضوا مآربهم وبلغوا منازلهم وأخذوا ما أعد لهم فإن فضل الله واسع لا يضيق على هؤلاء، بل فضله جل وعلا يسع جميع هؤلاء، وينشئ الله للجنة خلقاً فيسكنهم في فضولها، أي: فيما زاد منها عن أهل الجنة.
وأما من هم هؤلاء الخلق؟ وكيف يكونون؟ فهذا ليس لنا البحث فيه؛ لأنه من أمور الغيب، ونحن نؤمن بما أخبرنا، ونقف فيما أخبرنا عنه من أمور الغيب على ما ورد بلا زيادة ولا نقص.
قال رحمه الله: [وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة -يعني: أنواع وأجناس ما تضمنته الدار الآخر- من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار في العلم المأثور عن الأنبياء] .
أراد أن هذا الأمر ليس مما اختصت به الشريعة الإسلامية، ولا مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء، بل هو من الأمور التي اتفقت عليها الأنبياء، فإن مما اتفق عليه الأنبياء في دعوتهم الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر، فختم الشيخ رحمه الله هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان بهذا الأمر ليبين لنا أن ما جاء في هذا الأصل ليس مما اختص به أهل الإسلام، بل هو عام لأهل الإسلام ولغيرهم من الأمم.
ولكن الذي تميز به خاتم النبيين وإمام المرسلين وما تميز به الكتاب المبين والقرآن المجيد هو في قوله: [وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي ويكفي] أي: يشفي المحتاج ويكفي الطالب، وهذه الجملة تفيدنا فائدتين: الفائدة الأولى: أن ما جاء في الكتاب والسنة مما يتعلق باليوم الآخر فيه الكفاية، وفيه الشفاء، وفيه الغنية عن كل ما سواه، فلا حاجة بنا إلى مطالعة غير الكتاب والسنة، بل الواجب في ذلك الاقتصار على ما جاء في الكتاب والسنة.
الفائدة الثانية: أن ما جاء في هذه الشريعة أعظم مما جاء في غيرها، وذلك أن هذه الشريعة أخبرت عمَّا يتعلق باليوم الآخر بأضعاف ما أخبرت به الشرائع السابقة، ففي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وفي الكتاب الحكيم من ذلك ما لا يحصى كثرة وتنوعاً في الإخبار عما يكون في اليوم الآخر.
فقال رحمه الله: [وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك -أي: من الخبر عن اليوم الآخر وتفاصيل ذلك- ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه - أي: طلبه- وجده -أي: حصله-] ، وهو يشير إلى أنه لم يستوعب في هذا الفصل ما يتعلق باليوم الآخر، إنما ذكر جملاً وأصولاً، والذي يرغب في الزيادة والتفصيل فليرجع إلى الكتاب والسنة يجد في ذلك بغيته.
وبهذا يكون قد تم الكلام على هذا الأصل من أصول الدين ومن أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر.