والقرب العام الذي ذكر في قوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦] ، وقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] ، هو قرب الملائكة، قد يقول قائل: ما الذي جعلكم تصرفون اللفظ عن ظاهره؟ نقول: ليس ظاهره أن القرب مضاف إلى الله، بل ظاهره أن القرب للملائكة، أما في آية سورة (ق) فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}[ق:١٦] ، ثم قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق:١٦-١٧] ، وقوله: إذ، ظرف متعلق بأقرب، فهذا القرب مقيد بهذه الحادثة، ولو كان القرب عاماً لما احتاج إلى تقييده في هذه الحالة، فالقرب هنا هو قرب الملائكة؛ ولذلك قال جل وعلا:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ}[ق:١٦-١٧] ، فما فائدة ذكر المتلقيين إذا كان القرب له سبحانه وتعالى؟! فالآية سياقها وسباقها يدل على أي شيء؟ يدل على أن القرب للملائكة الكتبة الحفظة، الذين قال الله فيهم:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:١٠-١٢] ، والذي في قوله:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:٤] ، حافظ يحفظ أعمالها وما كان منها، وقوله:{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}[الأنعام:٦١] .
المهم أن القرب هنا هو قرب الملائكة، أما الرب جل وعلا فإنه لم يصف نفسه بالقرب من كل أحد.
أما الآية الثانية التي في سورة الواقعة:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] فهذه الآية أيضاً واردة في الملائكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يرسل الملائكة تتوفى الأنفس، {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٣-٨٥] ، وقوله:{وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] ، الذي نفي إبصاره هل هو الله جل وعلا؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا:(واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو إبصار الملائكة؛ ولذلك كان قوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] ، يعني: أن الملائكة قريبون من الميت، ولكن لا تبصرونهم، أما الرب جل وعلا فإنه لم يصف نفسه بالقرب من كل أحد.
ثم لو كان القرب عاماً لما كان هناك تمايز بين قربه من الميت وقربه من الحاضرين، فلا وجه للتخصيص، إلا أن القرب هنا هو قرب الملائكة.
وبهذا يتبين أن القرب الذي وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه في كتابه هو القرب الخاص من العابد الداعي الساجد، أما القرب العام فلم يرد في الكتاب ولا في السنة مضافاً إليه سبحانه وتعالى.
ومن أهل العلم من فسر القرب بالمعية الخاصة، فقال: صفة قربه سبحانه وتعالى هي معيته الخاصة لأوليائه وعباده المتقين والصابرين والمحسنين والمتطهرين وما إلى ذلك، وهذا الذي نحى إليه ابن القيم رحمه الله، وظاهر كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن القرب صفة مستقلة عن المعية بالكلية، فليست هي المعية الخاصة ولا المعية العامة، وهذا هو الأليق بظواهر النصوص، وهو أن القرب صفة غير المعية.