[الفاسق لا يسلب اسم الإيمان بالكلية]
قال رحمه الله: [ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية] .
يقول: لا يسلبون، أي: لا يرفعون عن الفاسق الملي يعني: الفاسق من أهل الإسلام، وقوله: الملي، يعني: من كان من أهل الإسلام، فلا يقولون: هذا ليس مؤمناً بالكلية، بل يثبتون له مطلق الإيمان، والذي ينفونه عنه هو الإيمان المطلق، أما مطلق الإيمان فهو ثابت، وتنبه للفرق بين مطلق الإيمان وبين والإيمان المطلق، الإيمان المطلق: هو الإيمان الكامل التام، وأما مطلق الإيمان: فهو ما يثبت به وصف الإيمان ولو لم يكن كاملاً تاماً، فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، بل يبقون معه مطلق الإيمان، هذا من حيث الاسم خلافاً للمعتزلة والخوارج والمرجئة، فالمعتزلة يسلبون عنه الاسم، فلا يسمونه مسلماً ولا مؤمناً، يعني: الزاني إذا زنى أو السارق إذا سرق فإنه لا يسمى عندهم لا مسلماً ولا مؤمناً، فهل هو كافر؟ يقولون: لا، ليس بكافر، هو في منزلة بين المنزلتين أي: بين الإيمان والكفر، هذا من حيث الاسم، وأما من حيث الحكم، فالمعتزلة يقولون: إنه خالد في النار، والجنة محرمة عليه، أما بالنسبة للخوارج فإنهم من حيث الاسم يقولون: مرتكب الكبيرة كافر، وأما من حيث الحكم فهو خالد مخلد في النار.
إذاً: المعتزلة والخوارج يتفقان في النتيجة وإن اختلفا في الأسماء في الدنيا.
أما المرجئة فإنهم يقولون: العاصي الذي أسرف على نفسه بأنواع المعاصي على اختلاف أنواعها وكثرة تكرارها هو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم! فأثبتوا له الإيمان المطلق، فهم يقابلون الخوارج والمعتزلة.
وهذا الكلام ليس كلاماً نظرياً لا واقع له، هذه عقائد موجودة وقائمة، ويدافع عنها أصحابها، ويحاولون تقريرها بأنواع من الوسائل، فلا تظن أن هذه الفرق بادت وانتهت، هذه الفرق رائجة وقائمة ولها دعاتها، فلا بد للمؤمن أن يحيط بها علماً، وأن يعرف أصول أقوال البدع حتى يسلم منها أولاً، وثانياً: يتمكن من الرد عليها، وثالثاً: يكون ممن وفقهم الله إلى الذب عن السنة، وعن منهج أهل السنة والجماعة، وطريقة السلف الصالح.
قال رحمه الله: [ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة] .
الخوارج مثل المعتزلة، لكن أتى هنا بما اختصت به المعتزلة، وهو أنهم يخلدونه في النار، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: هذا مؤمن ناقص الإيمان، ولا يرفعون عنه اسم الإسلام، وأما أولئك فإنهم يرفعون عنه اسم الإيمان والإسلام، ومن حيث الحكم في الآخرة فهو في النار خالداً مخلداً فيها.
ثم قال رحمه الله تعالى في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة ووسطيتهم في هذا الأمر: [بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢] وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:٢]] .
المؤلف رحمه الله تعالى يقول: بل الفاسق يعني: الملي من أهل الإسلام يدخل في اسم الإيمان المطلق، لماذا؟ لأن معه شيئاً من الإيمان، فلما كان معه شيء من الإيمان بقي في دائرة الإيمان المطلق، ولم يخرج عن مسمى الإيمان؛ لأن معه أصول هذا الإيمان الذي يثبت لكل من اتصف به؛ ولذلك يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وهل يلزم في الرقبة المحررة أن تكون كاملة الإيمان؟ لا، لا يلزم، بل كل مؤمن ولو كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي فإنه يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، وهذا يثبت لأدنى المؤمنين إيماناً، وهو من أقر بالأصول التي في حديث جبريل، ولو خالف في العمل بالذنوب والمعاصي، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق الكامل التام؛ ولذلك لا يدخل المسرف على نفسه بالمعاصي في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} ، بل حتى الذي لم يسرف على نفسه بالمعاصي، وكان ممتنعاً عن المعاصي، لكنه لا يتصف بهذا الوصف (إذا ذكر الله وجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته زادته إيماناً) ؛ فإنه لا يدخل في اسم الإيمان المطلق.
وهل يكون منافقاً؟ الجواب: لا؛ لأن الإيمان المنفي هنا هو الإيمان التام الكامل الذي يستلزم القيام بجميع ما أمر به الإنسان، وترك جميع ما نهي عنه، وليس المراد أنه من لم يتصف بهذا فهو من المنافقين؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤] ، فنهاهم عن قول الإيمان وأمرهم بقول الإسلام، أن يقولوا: أسلمنا، فأثبت لهم حكم الإسلام، وهل هم منافقون؟ الجواب: لا، ليسوا منافقين، فالإسلام الذي معهم ليس هو إسلام المنافقين، بل هو نظير إسلام أهل الكبائر أي: إسلام وإيمان ناقص؛ ولذلك نفاه عنهم لما لم يكملوه.
فتنبه لهذا! فعندنا في الإيمان حد أعلى، وحد أدنى، الحد الأعلى في الإيمان هو: الإيمان المطلق الذي يستلزم القيام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، الأوامر القلبية والبدنية، والنواهي القلبية والبدنية، ومطلق الإيمان الذي هو أدناه يصدق على كل من أقر بأصول الإسلام، فإنه يكون مؤمناً إيماناً مطلقاً، يعني: معه أدنى ما يتصف به من الإيمان، وهو الإيمان بالأركان الستة.